جدار المقاومة البشرى فى الدنمارك

Danish Resistance-4

“لم ينتصر الشرّ في الدنمارك،  لأن الدنماركيين قالوا لا1

إيلن ليفاين، Darkness Over Denmark

 

الرؤية والحافز

تردّد صدى خطوات ثقيلة حول فناء قصر أمالينبورج المهجور وكأنها تدق ناقوس الخطر القادم. رفع عناصر الحرس الملكى بنادقهم بصمت لصدّ المتسللين، ولكن للأسف، بعد فوات الآوان. فقد باتت المدينة تترنح تحت نيران قاذفات القنابل الألمانية التى تعلن قدومها للمدينة حاملة الصليب المعقوف الذى بدا لامعا في ضوء الفجر، فيما راحت منشورات خضراء شاحبة تتطاير فوق المدينة النائمة.حملت المنشورات بلغة دنماركية ركيكة رسالة للدنماركيين جاء فيها  ” تتولى القوات الألمانية الآن حماية حيادية المملكة الدنماركية… تجنّبوا أى مقاومة سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة… فكل أشكال المقاومة لا فائدة منها وسنواجها بكل ما أوتينا من قوة.” 2

فبعد تغلبهم على سلاح الجو الدنماركى، هبط رجال المظلات الألمان لتأمين المدن الجنوبية في البلاد. ومع بزوغ الفجر استسلم عاهل البلاد الملك كريستيان العاشر البالغ من العمر سبعين عاما. ورغم احساسه بالهزيمه بدا الملك متماسكا وهو يعلن عن التعاون مع ألمانيا “لتجنيب بلاده المزيد من الأهوال.” 3وفي ذلك اليوم، التاسع من أبريل 1940، استيقظ الدنماركيون ليجدوا أنفسهم شعبا محتلا و”محمية آرية” حينها أطلق ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وقتها على الدنمارك لقب “طائر الكنارى الأليف.” 4

فقبل عاميْن، كان رئيس الوزراء البريطانى نيفيل تشامبرلين وقتها قد أعلن عن اتفاق مع هتلر يسمح لألمانيا بضمّ جزءٍ كبير من تشيكوسلوفاكيا إليها، وذلك مقابل إبرام اتفاق سلام بين ألمانيا والمملكة المتحدة. 5ومع ذلك، وبعد فترة وجيزة من توقيع هذا الاتفاق، اشتعلت الحرب فى القارة آوروبا مرة أخرى. ولكنّ ألمانيا لم تسع هذه المرة إلى التوسع الإقليمى فحسب، بل أرادت إبادة الشعب اليهودى أيضاً. وبحلول الوقت الذى استسلم فيه كريستيان ملك الدنمارك ، كانت المؤامرة النازية القاضية بإبادة اليهود وهو ما يعرف ب “الحل النهائي للمسألة اليهودية” قد اكتملت، وكان داخاو، أول معسكرات الاعتقال النازية والذى قُتل فيه 28 ألف شخصا على الأقل يضمّ بالفعل آلاف اليهود والسجناء السياسيين. 6وفي ظلّ الارتفاع الهائل لعدد قوات الرايخ الثالث التابعة لهتلر مقارنةً بالقوات الدنماركية، بدا مصير البلاد ومصير سكانها اليهود محسوماً.

جدار المقاومة

فى الصباح التالى للغزو الألمانى، توقف الطالب آرنى ساير البالغ من العمر 17 عاماً فجأة بينما كان يتجول فى شوارع بلدة سلاجيلسى الدنماركية الصغيرة. وقف آرنى مذعوراً فيما راحت الحشود المبتسمة تهلّل لفرقة عسكرية ألمانية. 7كان ملك البلاد المحبوب قد طالب شعبه راجيا: “أظهروا سلوكاً مشرفا ينم عن الاحترام. تصرفوا كدنماركيين صالحين.” 8و تساءل آرنى ماذا يعنى الملك “بالدنماركى الصالح” وبحلول المساء توصل آرنى للإجابة. فكتب: “انضموا إلى النضال من أجل حرية الدنمارك. عليكم مقاومة  الألمان” و”يجب الا تتسوقوا من متاجر النازييين.” 9كتب آرنى أفكار المقاومة تلك وغيرها، التى عرفت فيما بعد باسم “وصايا الدنماركيين العشر.” 10 وقام بتوزيعها على منازل الأطباء والمحامين البارزين. 11 يتذكر آرنى تلك الفترة بالقول: “شعرت أنّ ما أفعله غير قانونى… كنت اختبئ فى الشوارع المظلمة التى لا يعكّر سكونها إلاصوت أحذية الدوريات الألمانية  ذات النعال المسمارية لأتحين الفرصة لمهاجمتهم.” 12

لم يكن آرنى وحده. فمع الاحساس المتاعظم بالعارٍ والحزن لدى الدنماركيين من احتلال الألمان لبلادهم ظهرت مئات من جماعات المقاومة المستقلة وتكاثرت بشكل عشوائى. 14 على سبيل المثال شكل ثمانية طلاب نادى تشرشل، بقيادة كنود بيترسن البالغ من العمر 17 عاماً. مسلحة فقط بالكبريت والبنزين. كانت جماعة نادى تشرشيل تقوم بسرقة الأسلحة وتعبئة خزانات الوقود بالسكر وتدمير ذخائر النازى. 15 كانوا يقتربون بلا مبالاة من الجنود وهم فى حالة سكر ويبدى الأصغر سنا منهم اهتماما  بالجنود الألمان، فى الوقت الذى يقوم الأكبر سناً منهم بتفتيش سترات الجنود وسرقت أسلحتهم. وكان هؤلاء الطلبه دائما ما يرددون تلك العبارة : “إذا كنتم أيها الكبارلا تنوون أن تحرّكوا ساكناً، فعلينا نحن الصغار أن نفعل ذلك بدلاً عنكم.” 16

 

الأهداف والغايات

كانت جماعات المقاومة الدنماركية موحّدة الأهداف على الرغم من جذورها المتباينة وممارساتها المستقلة، وكان هدفها النهائى يتمثل باستعادة الحرية والاستقلال والديمقراطية. ووهو ما دعا إليه السياسى كريسمس مولر من منفاه فى لندن: “مطلوب منّا جميعاً أن نتحرّك. من واجبنا أن نضع نصب أعيننا هدفاً واحداً، ألا وهو أن نفعل كل ما يضرّ أشد الضرر بألمانيا قوموا بواجباتكم. قوموا بعملكم.” 17 وقد لبّى الدنماركيون هذه الدعوة، أغنياء وفقراء على حدّ سوا

مع حلول أول شتاء فى ظل الاحتلال، باتت المواقف العامة ضد المحتلين النازيين أكثر قوة وصلابة. كانت المخابز وعربات النقل تصبح فارغةً على الفور وبشكل تلقائى ما أن يدخلها الجنود الألمان، ويحتشد الدنماركيون خارج تلك المخابز وأمام عربات النقل، حتى أثناء البرد القارص والآعاصير، إلى أن يتركها النازيين 18 تعامل الملك كريستيان مع محتلّى بلاده ببرود شديد ولكن دون عداوة معلنة. كان يمتطى حصانه في أرجاء كوبنهاجن كلّ صباح ويلقى التحية بحرارة حتى على أكثر المواطنين تواضعاً، فى حين يتجاهل تحيات النازيين بشكلٍ متعمّد. 19 في عيد ميلاده الثانى والسبعين، تلقّى الملك برقية شخصية مليئة بالمجاملات من هتلر نفسه، وأجاب عليها باقتضاب: “أبعث لك بعميق شكرى، كريستيان ريكس.” 20 استشاط هتلر غضباً من ردّة فعل الملك على هذا “الشرف الفريد” وكادت أن تنشب حرب مدمرة ٌإلا أنه تم تجنبها. 21

بكثير من الحماس وحد نجوم الكوميديا والطلبه والموسيقيون جهودهم لشن موجة من المقاومة السلمية. فعلى سبيل المثال رفع كوميدى دنماركى يده وكأنه يؤدى التحية النازية، صاح الجمهور الألمانى بتحية هتلر، ولكنه تمهّل قليلاً ثمّ أردف ساخراً: “هذا كان مدى ارتفاع الثلج في كوبنهاجن العام الماضى.” 22 وتجمّع آلاف الطلاب لأداء الأغانى الوطنية خارج أمالينبورج، وهو مقرّ العائلة المالكة الدنماركية الشتوى، وأصبحت مقطوعة بيتهوفن الخامسة المفضلة على مستوى الوطن، إذ تمّ تفسير نوتاتها الافتتاحية باعتبارها رمزا موسيقيا يعنى”سوف ننتصر.”23

في مقابل الاستسلام السريع للملك كريستيان، سمح النازيون للدنماركيين بالاحتفاظ بدرجة من الاستقلالية. ولكن مع مرور الوقت، شدّد الرايخ الثالث تدريجياً قبضته الحديدية على البلاد. وفى عام 1941، أجبر النازيون الحكومة الدنماركية على حظر النشاط الشيوعى. 24 وبالإضافة إلى ذلك، استولى النازيون على زوارق الطوربيد البحرية الدنماركية، منتهكين بذلك وعداً قطعوه في وقت سابق “بأنّ الجيش والبحرية الدنماركيين سيبقيان دون مساس.” 25

فيما تبخّر ادّعاء حماية حياد الدنمارك الخيالى ببطء، مما جعل بعض جماعات المقاومة تضع احتمالية ممارسة أنشطة مقاومة تخريبية تطال المحتل النازى نصب أعينها. ومع ذلك، ورغم زيادة تدخّل النازية في الشئون الداخلية للدنمارك، رفض كثير من الدنماركيين فكرة اللجوء إلى العنف. ووبينما كانت مجموعات المقاومة تتفاوض بشأن مدى جواز القيام بأعمال تخريبية أخلاقيا، ازداد غضب خبير هتلر اللوجستى سيئ السمعة، الزعيم النازى أدولف أيخمان، بسبب بقاء يهود الدنمارك الـبالغ عددهم نحو 7500 على قيد الحياة. 26 وبحلول نهاية عام 1942، كان النازيون قد أودعوا يهود النرويج فى أوشفيتس وقتلوا مئات الآلاف من يهود البلدان الأوروبية الأخرى، ولكنهم لم يتعرّضوا ليهود الدانمرك.

كان النازيون حريصين على تغيير هذا الواقع، فخططوا لخطف اليهود الدنمارك من منازلهم فى الأول من شهر أكتوبر 1943، وهو يوافق عيد رأس السنة اليهودية، والذى تحتفل به معظم العائلات اليهودية فى المنازل. وكان الملك كريستيان دائما ما يؤكد و  يكرره قوله بأنه”لا توجد مشكلة مع اليهود فى هذا البلد… هم مواطنون دنماركيون.” 27 لذلك، كان النازيون يعرفون أنّ ارتكاب أعمال عدائية ضدّ اليهود سيفجّر الوضع السياسى. لذلك أمر أدولف أيخمان الضباط بتجنب احداث ضجة خلال مهاجمة منازل اليهود، فقط إلقاء القبض على اليهود ونقلهم إلى خارج البلاد بهدوء. ومع ذلك، عندما أحاطت قافلة الشاحنات التابعة لأيخمان كوبنهاجن وطرقت الشرطة السرية النازية الجيستابو بقوة على الأبواب،وجدوا أنّ معظم الأسر اليهودية قد لاذت بالفرار.

حيث علمت جماعات المقاومة بشأن الهجوم من ملحق نازى خائب قبل أقلّ من 24 ساعة من تنفيـذه28 وبدأت بالعمل وسمحت لليهود بالذوبان “فى جدار بشرى أقامه الشعب الدنماركى.” 29 أخذ يورن كنودسن، وهو سائق سيارة إسعاف، دليل هاتف وراح يقلّب صفحاته ويحدّد الأسماء التى بدت يهودية. ثمّ حدّد مكان تواجد أكبر عدد ممكن منهم ونقلهم إلى منازل آمنة لغرباء. 30 وأدخل الأطباء يهود أصحاء تماماً إلى المستشفيات ومنحوهم أسماء وهمية وقاموا بتشخيصهم بأمراض وهمية، ثمّ تركوهم يغادرون سراً كمشيّعين في مواكب جنازات وهمية. 31  ومن بين الأمثلة أيضا ما قامت به طالبة الآداب إلزبيت كيلر التى كانت ترغب في جمع الأموال لمساعدة اليهود على الفرار إلى السويد عبر مضيق أوريسند الضيق، فراحت تتنقّل بين المنازل وتطلب التبرعات. وتتذكّر إلزبيت تلك الفترة قائلة: “كنا من السذاجه إلى حدّ أننا كنا نتنقّل بين المنازل وفى كل مرة نطلع من إلتقينا بهم على سرّنا الصغير، ولكن اتضح أن السذاجة كانت سر قوّتنا.” 32

ومن جهة أخرى تفاوضت جماعة المقاومة المحلية المعروفة باسم “هولجر دانسك” مع الصيادين لتأمين عشرة زوارق لتهريب  اليهود إلى السويد. وتبعتها زوارق أخرى، وفى غضون أسابيع، كان هناك نحو 300 قاربا سلكت 55 طريقا بشكل غير شرعى لتهريب اليهود. 33 استقلّ آلاف اليهود هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر عبر المياه المليئة بالألغام البحرية وهم محشورون في الجزء السفلى من قوارب الصيد أومختبؤون تحت أكوام من القش وأسماك الرنجة. 34 يتذكر جوس جولدبرجر هذه الرحلة التى قام بها في عمر التاسعه قائلا: “ما زالت رائحة السمك تذكّرنى بالحرية.” 35 في نهاية المطاف، تمكّن سبعة آلاف شخص أى أكثر من 90 ٪ من يهود الدنمارك من الهروب من البلاد وتجنّب الإرهاب النازى. وتعبيرا عن احساسه بالحسره لفرار يهود الدنمارك قال أيخمان “إنّ الدنمارك شكّلت عقبة كبرى  حيث فر منها معظم اليهود.” 36

ولكن لم يتمكّن كل اليهود الدنماركيون من الهروب من النازيين. فقد وضع النازيون بمنتهى القسوة عدة مئات من اليهود الذين لم تسمح لهم ظروفهم الصحية بالفرار أو لم يدركوا الخطر الوشيك على متن سفينة تجارية ألمانية وقاموا بترحيلهم إلى معسكر العمل بتيريزينشتات السيئ السمعة الـذى يوجد حالياً في  جمهورية التشيك. 37 وعندما عرفت الحكومة الدنماركية بذلك، بذلت قصارى جهودها لحماية مواطنيها اليهود. ونجحت الحكومة في استغلال كل ثغرة فى السياسات النازية العنصرية لتأمين إطلاق سراح نصف الدنماركيين اليهود. 38 كما رفضت التخلى عّن باقى اليهود الذين لم تنجح فى الإفراج عنهم، فحرصت على أن يتلقى جميع اليهود الدنماركيون المسجونون طرود الصليب الأحمر المليئة بالحليب والملابس؛ وغالباً ما كانت الفيتامينات والمواد المغذية تُخبّأ سرّاً فى تلك الملابس، ويقال إن الدنمارك نجحت فى الحد من معدلات وفيات السجناء الدنماركيين إلى النصف. 39 وفي محاولة لخداع الحكومة الدنماركية، وأثناء زيارة الساسة الدنماركيين لمعسكر بتيريزينشتات.  حوّله النازيون إلى معسكر مثالى وكأنه حضانات مليئة بالألعاب وحدائق جميلة 40 وبسبب ضغوط الحكومة الدنماركية، نجا الغالبية العظمى من اليهود الدنماركيين المسجونين. وقبل فترة قصيرة من استسلام الألمان وخلال مفاوضات ساخنة مع هاينريش هيملر قائد قوات الجستابو، نجح الدبلوماسى السويدى فولك برنادوت في تأمين الإفراج عن آلاف السجناء من معسكرات الاعتقال النازية، بما فيهم اليهود الدنماركيين الـبالغ عددهم  450 الذين كانوا لا يزالون فى معتقل تيريزينشتات، ورافقهم برنادوت شخصياً خلال إطلاق سراهم ونيلهم حريتهم  فى 14 أبريل 1945. 41

القيادة

الكثير من هؤلاء الذين اشتهروا في الدنمارك بسبب نضالهم من أجل الحرية لم يكونوا من النخبة السياسية ولا عرف عنهم مواقفهم الثورية؛ فى الواقع، كانت غالبيتهم من الأشخاص العاديين والطلاب والأمهات والأباء والصيادين، الذين آمنوا بأنّ “المقاومة خيارهم الوحيد.” 42 ولكنّ حركة المقاومة شملت أيضاً مجموعات كثيرة متميزة ، مثل نادى تشرشل وهولجر دانسكى وغيرهما. وكان لكلّ مجموعة هيكل قيادة مختلف وأسلوب عمل خاص بها، مما أدّى إلى فقدان التنسيق فيما بين تلك الجماعات ومثل من وقت لآخر خطورة على حركة المقاومة فى العموم. على سبيل المثال، خطّطت جماعتان مستقلتان ذات مرة لمهاجمة مصنع ما فى وقت متزامن مما مثل خطر عليهما. 43 وللحدّ من هذه الحوادث، قام قادة سبع من جماعات المقاومة الرئيسية بتشكيل مجلس الحرية فى أوائل خريف عام 1943 من أجل “تنظيم أنشطة المقاومة وتنسيقها.” 44

 

البيئة المدنية

كانت أخبارالمقاومة الدنماركية تبدو أشبه بضرب من الخيال، مع حكايات الرسائل السرية المخبأة فى أرغفة الخبز،45 والإشارات المشفّرة فى المكتبات،46 والمهام التخريبية فى منتصف الليل؛47 بيد أنّ أثرها على النازيين جاء مرعبا. فى البداية كان النازيون يرغبون في ضمان امتثال الدنمارك، فمنحوا البلاد الحق فى ضمان سلامة أراضيها واستقلالها السياسى بشكلٍ جزئي. 48 وفي المقابل، كانت السلطات الدنماركية تعاقب عناصر المقاومة وتصدرعليهم أحكاما بالسجن،  وإن كانت هذه الأحكام لفترات قصيرة جدًا في كثير من الأحيان. 49وقد استشاط هتلر غضباً51 عندما دمّرت المقاومة الدنماركية مقرًّا تمّ تحويله إلى ثكنة للجيش وكاسحة ألغام قبل أيام من الإنتهاء من إعدادهما لبدء العمل بهما. 50

نجم عن هذا أن عيّن هتلر مفوّضين أكثر قسوة للإشراف على الدنمارك المحتلة. وطلب من أحد هؤلاء المفوّضين، الدكتور فيرنر بيست، أن “يحكم بقبضة من حديد.”52 وعلاوةً على ذلك، طلب هتلر “مكافحة التخريب بالخوف،”53 وأضاف هملر: “لا ينبغي معاملة السجناء بشكل لائق بعد الآن، بل ينبغى كسر إرادتهم.” 54وبعد إضراب عم البلاد في أغسطس عام 1943، فرضت السلطات الألمانية الأحكام العرفية. وتمّ حظر الإضرابات وفرض حظر التجوّل، وأُعلن أنّ الإعدام هو عقوبة القيام بأعمال تخريبية. 55احتل الألمان المبانى العامة واستقالت حكومة دنمارك وقام ضباط البحرية الدينماركية بإغراق 29 سفينة، بينما تمّ تهريب ما تبقّى منها إلى السويد. 56وتعرّض زعيم المقاومة والشاعرالمعروف كاج مونك للاغتيال57 وتمّ إرسال ستة آلاف دنماركي- ثلثهم من ضباط الشرطة إلى معسكرات الاعتقال النازية عقاباً على مقاومتهم.58

وعلى الرغم من التعذيب والتجويع، ظلّ الكثيرون مصرّون على المقاومة. ويكتب يورن كيلر عن الموضوع قائلاً: “لم أكن في حاجة إلى الإيمان بالحياة بعد الممات. كنت أؤمن برضا… بأنّ القيم التى كنت أحارب من أجلها لن تموت برصاص الفرقة التى ستعدمنى.” 59كان يورن مرهقاً وواهناً بسبب العمل بلا كلل على الألغام الألمانية، حيث واصل مقاومته عن طريق إزالة مكوّنات رئيسية من المعدات. 60وواصل ثلاثة من أعضاء نادى تشرشل جهودهم حتى أثناء سجنهم. فقد قاموا بنشروا أحد قضبان زنزانتهم، وهربوا بدون أن يراهم أحد وخرّبوا قواعد ألمانية قبل أن يعودواٌ إلى السجن ويعيدوا القضيب بدقة إلى مكانه. 61وقد سألهم ضابط ألمانى حائر: “لماذا لا تبكون؟ الجميع يبكى فى البلدان الأخرى.” 62

الرسالة والجمهور

كان بائعو الصحف الدنماركيون الشباب يصيحون عند بيعهم الصحف الخاضعة للرقابة الشديدة من قبل الألمان “أكاذيب بثمانية قروش!” 63. فعلى الرغم من جهود النازيين الكبيرة، أصبحت الصحف الرئيسية والسرية “سلاح المقاومة الأهمّ.” 64لم تكن الصحف الرسمية معتادة على القيود، فراحت تنشر الدعاية الإلزامية بسخرية متميزة. كانت تعلن “هذا آخر بيان” وتطبع المقالات بمساحة مزدوجة متباعدة لتشجّع القراء على قراءة ما بين السطور. 65وتفاخر إعلان فى صحيفة محافظة بالقول: “سنفوز بعملاء عدة بفضل أسعارنا المنخفضة،” ونشر مقالاً بدا بسيطاً بشأن التصميم المعمارى لمعالم رئيسية في البلاد، مما ساعد القوات الخاصة البريطانية على تحديد مواقع غاراتها لتقليص الخسائر في صفوف المدنيين. 66

ازدهرت الصحافة السرية في زمن الحرب في الدنمارك حيث كان هناك أكثر من 552 صحيفة توزع ما يُقدّر بـ 23 مليون نسخة، وكانت إحداها تعمل بجرأة من الطابق السفلى لمقرّ النازية في كوبنهاجن. 67وكان رجال الأعمال  يهربون المنشورات عند سفرهم إلى الخارج ليزودوا الحلفاء بمعلومات استخباراتية مهمة رغم علمهم بمدى خطورة ما يفعلون على حياتهم. ونشرت صحيفة فريت دينمارك السرية: “لا يمكن أن ينصاع الدنماركيون للتهديدات الألمانية، حتى عندما تنتظرنا… عقوبة قاسية.” 68وألهمت هذه الصحف الكثير من الدنماركيين لتحدّى إرادة المحتلّ بكثير من الشجاعة. وحرص خفر السواحل على وضع زوارق الدوريات خارج المياه،69 وتباطأ عمال بناء السفن في عملهم، وأصبح خبراء المتفجرات لا يخشون الموت عند تفجيرهم قنابل فى أماكن حرجة. 70

تمّ جمع الأموال من خلال التجارة المزدهرة بالكتب المحظورة، وكانت نسخ خطابات هتلر تحمل أغلفة مهينة بشكل كبير، كما أن الكتب التى كانت تحتوى على “وصفات” المتفجرات منزلية الصنع بين أكثر الكتب مبيعاً. ونصح كتاب مكتوب باللغة الألمانية الجنود الألمان المحبطين بشأن كيفية ادّعائهم المرض بشكلٍ مقنع، حتى أنّه اشتمل على وصفة طبية معبأة سلفاً لدواء يصيب الجنود بالإعياء. 71غضب فيرنر بيست مفوّض هتلر فى الدنمارك من ما تقوم به الصحافة وراح يطلق التحذيرات بدون جدوى ، من بينها: “على كلّ محرر أن  يحرص على ألا تسمم أفكار الناس وإن لم يفعل فسيكون الثمن حياته.” 72

استخدم الرهبان اللوثريون أيضاً نفوذهم لتعزيز المقاومة. وتمّت قراءة رسالة أسقف إلى التجمعات الدينية بعد يوم من جمع اليهود لحثّ المسيحيين على التذكير بأنّ يسوع نفسه قد ولد يهودياً. وأضافت الرسالة: “سوف نقاتل لنحفظ لإخواننا وأخواتنا الحرية التى تساوى قيمتها أكثر من الحياة نفسها.” 73 في نهاية المطاف، قدّم أكثر من 90٪ من الرهبان المساعدة، وقام العديد من أبناء الطائفة بتقديم المال والسكن والدعم لليهود الفارين.74

أنشطة التوعية

ما كانت للمقاومة الدنماركية أن تنجح في احباط خطة النازيين بدون مشاركة وتعاون مختلف طباقات المجتمع الدنماركى. وعلى الرغم من الاختلافات السياسية والطبقية ، تمكّنت المقاومة من التوحّد والمحافظة على صمودهم في قتالهم ضدّ النازية. وقد أدّت الخطوات الجريئة على غرار نشر آرنى سيير “وصايا الدنماركيين العشر” إلى إدراك الدنماركيين أنّ موقفهم ضدّ النازيين واحد حتى أولئك الذين لهم أراء مختلفه حول قضايا أخرى. ونتيجةّ لذلك، شارك الدنماركيون من مختلف شرائح المجتمع في المقاومة سواء كانوا صغاراً أو كباراً، أصدقاء أو غرباء، رجال شرطة أو رجال دين، بحارة أو  بائعات سمك، أو حتى الملك. قامت وحدتهم على معتقداتهم المشتركة. ويقول يورن كيلر، وهو عضو في هولجر دانسكى: “كان علينا أن نعترف بأننا نشير إلى أمور مختلفة جداً بكلمة ديمقراطية، ولكنّ… اضطهاد اليهود جعلنا نعتمد موقفاً أيديولوجياً مشتركاً ألا وهو احتضاننا الوطيد للحقوق.” 75

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانيةٍ كان النظام النازى قد قتل أكثر من ستة ملايين يهودى من الرجال والنساء والأطفال. ومع ذلك، وبفضل الجهود الدؤوبة للمقاومة الدنماركية، بلغت نسبة اليهود الدنماركيين من هذا العدد أقلّ من واحد في المئة. ويتذكر أحد الناجين بامتنان: “كثير من الأشخاص الرائعين أنقذوا حياتنا بتعريض أنفسهم للخطر.” 76مع انهيار الرايخ الثالث، عاد الكثير من اليهود المنفيين إلى الدنمارك ليجدوا منازلهم وممتلكاتهم فى حماية الجيران الذين رحبوا بهم “بمشاعر فياضه وأذرع وقلوب مفتوحة.” 77

 واليوم فى “ياد فاشيم” الواقع أعلى قمة غابة الصنوبر فى آورشليم القدس، والذى يضم النصب التذكارى لضحايا المحرقة   توجد فى شارع الصالحين شجرة تكريم المقاومة السرية الدنماركية. وكبادرة خاصة، منحت مؤسسة ياد فاشيم لقب “الصالحين بين الأمم” للشعب الدنماركي لأنّ “الدنماركيين من كافة الأعمار والطبقات والخلفيات شاركوا فى جهود إنقاذ اليهود.” 78وقد أثبت الدنماركيون أن  “الشعب الأعزل والمنظم” يستطيع “الانتصار على جيش بمجرّد أن يقول لا.” 79

 

تعلّم المزيد

Levine, E. (2000). Darkness over Denmark: The Danish Resistance and the Rescue of the Jews (available free on www.openlibrary.org)

Sutherland, C. (1991). Monica: Heroine of the Resistance (available free on www.openlibrary.org)

Ackerman, P., & DuVall, J. (2000). A Force More Powerful: A Century of Non-Violent Conflict

Kieler, J. (2008). Resistance Fighter

Werner, E. (2004). A Conspiracy of Decency: The Rescue of the Danish Jews in World War II

Footnotes

  1. Levine, E. (2000). Darkness over Denmark: The Danish Resistance and the Rescue of the Jews. Holiday House. p. vii
  2. Ibid. p. 9
  3. Ackerman, P., & DuVall, J. (2000). A Force More Powerful: A Century of Non-Violent Conflict. Palgrave Macmillan Trade. p. 210
  4. Levine, E. p. vi
  5. Kieler, J. (2008). Resistance Fighter. Gefen Publishing House. p. 17
  6. “Holocaust Encyclopedia,” United States Holocaust Museum. Retrieved December 5, 2014, from http://www.ushmm.org/wlc/en/article.php?ModuleId=10005214
  7. Ackerman, P., & DuVall, J. p. 212
  8. Sutherland, C. (1991). Monica: Heroine of the Resistance. Canongate Press. p. 103
  9. Ackerman, P., & DuVall, J. p. 213
  10. Ibid. p. 212
  11. “Danish citizens resist the Nazis, 1940-1945,” Global Nonviolent Action Database. Retrieved December 9, 2014, from http://nvdatabase.swarthmore.edu/content/danish-citizens-resist-nazis-1940-1945
  12. Werner, E. (2004). A Conspiracy of Decency: The Rescue of the Danish Jews in World War II. Basic Books. p. 11
  13. Kieler, J. p. 20
  14. Ackerman, P., & DuVall, J. p. 225
  15. Kieler, J. p. 139
  16. Ackerman, P., & DuVall, J. p. 215
  17. Ibid. p. 217
  18. Werner, E. p. 11
  19. Levine, E. p. 10
  20. Sutherland, C. p. 139
  21. Ibid.
  22. Ibid.
  23. Werner, E. pp. 17-18
  24. Kieler, J. p. 31
  25. Leistikow, Gunnar, “Denmark Under the Nazi Heel,” Foreign Affairs. Volume 21, Number 2. Council on Foreign Relations: January, 1943. Retrieved December 11, 2014, from http://www.foreignaffairs.com/articles/70240/gunnar-leistikow/denmark-under-the-nazi-heel
  26. “Holocaust Encyclopedia: Denmark,” United States Holocaust Museum. Retrieved December 5, 2014, from http://www.ushmm.org/wlc/en/article.php?ModuleId=10005209
  27. Sutherland, C. p. 150
  28. Levine, E. p. 68
  29. Ackerman, P., & DuVall, J. p. 228
  30. Ibid.
  31. Werner, E. p. 49
  32. Kieler, J. p. 98
  33. Ibid. p. 96
  34. Werner, E. p. 80
  35. Ibid. p. 69
  36. Levine, E. p. 66
  37. Sutherland, C. p. 150
  38. Werner, E. p. 110
  39. Ibid. p. 108
  40. Ibid. p. 122
  41. Ibid. p. 120
  42. Ibid. p. 80
  43. Kieler, J. p. 128
  44. Ibid. p. 80
  45. Ibid. p. 228
  46. Levine, E. p. 84
  47. Sutherland, C. p. 126
  48. Ackerman, P., & DuVall, J. p. 210
  49. Werner, E. p. 20
  50. Ibid. p. 22
  51. Sutherland, C. p. 129
  52. Ackerman, P., & DuVall, J. p. 218
  53. Kieler, J. p. 242
  54. Ibid.
  55. Werner, E. p. 23
  56. Levine, E. p. 57
  57. Ackerman, P., & DuVall, J. p. 224
  58. Werner, E. p. 4
  59. Kieler, J. p. 236
  60. Ibid. p. 290
  61. Sutherland, C. p. 126
  62. Kieler, J. p. 227
  63. Denmark: Shadow of the Swastika. (1941, July). TIME
  64. Kieler, J. p. 36
  65. Ackerman, P., & DuVall, J. p. 213
  66. Werner, E. p. 18
  67. Ibid. p. 19
  68. Ackerman, P., & DuVall, J. p. 223
  69. Werner, E. p. 38
  70. Sutherland, C. p. 134
  71. Werner, E. p. 19
  72. Levine, E. p. 64
  73. Kramer, N. (2007). Civil Courage: A Response to Contemporary Conflict and Prejudice. Peter Lang Publishing Inc., pp. 359-360
  74. Levine, E. p. vii
  75. Kieler, J. p. 91
  76. Werner, E. p. 47
  77. Ibid. p. 154
  78. Ibid. p. 168
  79. Ibid. p. 131