مسؤولية الحماية: تقرير اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول

R2P image_0

مسؤولية الحماية
كانون الأول/ديسمبر 2001
تقرير اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول
 
تصدير
يدور هذا التقرير حول ما يسمى بـ “حق التدخل الإنساني”: مسألة متى يكون، إن كان، من المناسب للدول أن تتخذ تدابير جبرية -عسكرية على وجه الخصوص -ضد دولة أخرى بقصد حماية أناسٍ يتعرضون لخطورة في تلك الدولة. كان يُنظَرُ إلى مسألة التدخل لأغراض الحماية البشرية، على الأقل حتى وضعت أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 المروعة مسألة الرد الدولي على الإرهاب في مكان الصدارة،  باعتبارها واحدة من أكثر المسائل إثارة للجدل في العلاقات الدولية قاطبةً وأصعبها. وبانتهاء الحرب الباردة أصبحت مسألةً حيةً على نحو لم يسبق له مثيل قطُّ. وصدرت دعوات كثيرة إلى التدخل خلال العقد المنصرم -بعضها استجيب وبعضها قوبل بالتجاهل. لكن ما زال ثمة خلاف حول ما إذا كان ينبغي ممارسة حق التدخل -إن وجد مثل هذا الحق -ومتى يمارَس، ومن يمارسُهُ، وتحت سلطة مَن.
التحدي في السياسة العامة
كان التدخل العسكري الخارجي لأغراض الحماية البشرية مسألة جدلية حين حصل – كما في الصومال والبوسنة وكوسوفو -وحين لم يحصل، كما في رواندا. فقد كان مبدأ الفعالية الجديد في نظر بعض الناس مسألة تدويل للضمير الإنساني آن أوانُهُ منذ زمن بعيد؛ وكانت في نظر آخرين خرقاً يدعو إلى الذعر لنظامٍ دوليٍّ قائمٍ بين الدول يعتمد على سيادة الدول وحرمة أراضيها. ورأى البعض أيضاً أن المسألة الحقيقية الوحيدة هي ضمان كون التدخلات الجبرية فعالة؛ ورأى آخرون أن ثمة مسائل أكبر من ذلك بكثير تتعلق بالشرعية وبالعملية وبإمكانية سوء استخدام هذه السابقة.
لقد جعل تدخُّل حلف شمال الأطلسي في كوسوفو في عام 1999 حدة الجدل تبلغ أشُدَّهاِ. فانقسم أعضاء مجلس الأمن؛ وادُّعِيَ بوجود تبرير قانوني للتدابير العسكرية دون إذنٍ جديدٍ من مجلس الأمن ولكنه، إلى حد كبير، لم يُدعم بالحجج؛ وكان التبرير الأدبي أو الإنساني للتدابير، وإن كان في ظاهرة أقوى كثيراً، مظلَّلا بسُحُبِ مزاعِمَ أن التدخل ولَّد من المذابح أكثر مما منع؛ ووُجِّهَت انتقادات كثيرة للطريقة التي أدار بها الحلفاء -أعضاء حلف شمال الأطلسي -العملية.
ووجه الأمين العام للأمم المتحدة، السيد كوفي عنان، في الجمعية العامة في عام 1999 ومرة ثانية في عام 2000، نداءات ملحَّة إلى المجتمع الدولي ليحاول التوصل نهائياًّ إلى توافق جديد في الآراء حول كيفية معالجة هذه المسائل، و”توحيد الكلمة” حول المسائل الأساسية المعنية سواء من حيث المبدأ أو العملية. وقد وجَّهَ السؤال المركزي بصراحة وبصورة مباشرة:
… إذا كان التدخُّل الإنساني يمثِّلُ حقاًّ اعتداءً غير مقبول على السيادة، فعلى أي نحوٍ ينبغي علينا أن نستجيب لحالات شبيهة برواندا أو بسريبرينيتسا –للانتهاكات الجسيمة والمنهجية لحقوق الإنسان التي تؤثر في كل مبدأ من مبادئ إنسانيتنا المشتركة؟
لقد كان استجابةً لهذا التحدي أن أعلنت حكومة كندا، مع مجموعة من المؤسسات الكبيرة، في الجمعية العامة في أيلول/سبتمبر 2000 إنشاء اللجنة الدولية المعنية بالتدخُّل وسيادة الدول. وقد طُلِبَ من لجنتنا أن تدرس بجِدٍّ كامل سلسلة المسائل –القانونية والأدبية والعملية والسياسية – التي تتناولها هذه المناقشة مجتمعةً، والتشاوُرِ مع ذوي الرأي على أوسع نطاق ممكن في كل أنحاء العالم، والخروج بتقرير يساعد الأمين العام وكلَّ مَن عَداهُ على إيجاد موقف جديد مشترك.
تقرير اللجنة
التقرير الذي نقدمه الآن وافَقَ عليه الأعضاء الأثنا عشر بالإجماع. وموضوعه الرئيسي هو “مسؤوليةُ الحماية”، فكرةُ أنَّ على الدول ذات السيادة مسؤولية حماية مواطنيها من الكوارث التي يمكن تجنُّبُها -من القتل الجماعي والاغتصاب الجماعي ومن المجاعة -ولكنْ عندما تكون هذه الدول غير راغبة أو غير قادرة على فعل ذلك يجب أن يتحمل تلك المسؤولية مجتمعُ الدول الأوسعُ قاعدةً. ونوقشت طبيعة تلك المسؤولية وأبعادها وأقيمت الحجج لها أو عليها هي وجميع الأسئلة التي يجب الرد عليها في موضوع مَنْ يمارس هذه المسؤولية وتحت سلطة مَنْ ومتى وأين وكيف. ويحدونا الأمل في أن يكون التقرير فتحاً جديداً بطريقةٍ تُساعد على توليد تَوافُق دولي جديد في الآراء حول هذه المسائل، فالحاجةُ ماسَّةٌ إليه.
إننا كرئيسين للجنة مدينان لزملائنا أعضاء اللجنة على ما وفَّروه من فائق المعرفة والخبرة وسداد الرأي في إعداد هذا التقرير على مدى سنة طويلة مضنية من الاجتماعات. وقد أبدى أعضاء اللجنة كثيراً من الآراء الشخصية المختلفة أثناء المناقشة، وإن التقرير الذي اتفقنا عليه لا يعكس في جميع الوجوه الآراء المفضلة لدى أيٍّ واحد منهم. وعلى وجه الخصوص فضَّل بعض أعضاء لجنتنا نطاقاً لمعايير العتبة أوسَعَ من نطاق الآراء المقترحة في تقريرنا للتدخل العسكري، وفضَّل بعضهم نطاقاً أضيق. وكذلك فضَّل بعض الأعضاء مرونة أكثر وبعضهم أقل في التدخل العسكري دون موافقة من مجلس الأمن.
غير أن النص الذي توافقت عليه آراؤنا يعكس الآراء المشتركة لكل أعضاء اللجنة حول ما يمكن تحقيقه سياسياًّ في العالم كما نعرفه اليوم. فلا نريد حالات أخرى كحالة رواندا، ونحن نعتقد بأن اعتماد المقترحات الواردة في تقريرنا هو أفضل طريقةٍ لضمان ذلك. ونحن جميعنا نعتقد بأن من الأساسي نقلَ تَوافُقِ الآراء الدولي إلى الأمام، ونعلم أنه لا يمكننا أن نبدأ في تحقيق ذلك ما لم نتمكن نحن من التوصل إلى توافق في الآراء فيما بيننا. وإننا لنأمل أن ينعكس ما أنجزناه الآن في المجتمع الدولي الأوسع نطاقاً.
التقرير وأحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001
كادت اللجنة تنتهي من وضع تقريرها قبل الهجمات المروعة التي وقعت في 11 أيلول/سبتمبر 2001 على نيويورك وواشنطن العاصمة، ولم يكن القصد منه معالجة نوع التحدي الذي شكلته هذه الهجمات. فقد كان تقريرنا يهدف إلى توفير توجيه دقيق للدول التي تُواجَهُ بمطالب الحماية البشرية في دول أخرى؛ ولم يكن قد صيغ لتوجيه سياسة الدول عندما تواجَهُ بهجوم على مواطنيها أو على مواطني دول أخرى يقيمون داخل حدودها.
والوضعان في نظرنا مختلفان اختلافاً أساسياًّ. ولا ينبغي الخلط بين الإطار الذي طورته اللجنة لمعالجة الحالة الأولى (الرد على مطالب الحماية البشرية في دولٍ أخرى) بعد إجراء مشاورات في مختلف أنحاء العالم، والإطار اللازم لمعالجة الحالة الثانية (الرد على هجمات إرهابية داخل الدولة نفسها). وليس أقلَّ الفروق بين الحالتين أن ميثاق الأمم المتحدة ينص، في الحالة الثانية، على سلطة أوضح كثيراً للقيام بردٍّ عسكري مما هو عليه الأمر في حالة التدخل لأغراض الحماية البشرية: فالمادة 51 تعترف بـ “الحق الطبيعي للدول فرادى وجماعات في الدفاع عن النفس إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة”، وإن كان يلزم إبلاغ مجلس الأمن فوراً بالتدابير المتخذة. وفي القرارين 1368 و1373 اللذين اتخذهما المجلس بالإجماع عقب هجمات أيلول/سبتمبر لم يترك المجلس مجالاً للشك في مدى التدابير التي يمكن للدول أن تتخذها وينبغي أن تتخذها رداًّ على ذلك.
وإن كنا، للأسباب التي ذكرناها، لم نعالج في متن تقريرنا -إلاّ لُماماً –  المسائل التي أثارتها هجمات 11 أيلول/سبتمبر، هناك جوانب لتقريرنا لها صلة إلى حدٍّ ما بالمسائل التي يحاول المجتمع الدولي معالجتها عقب تلك الهجمات. وعلى وجه الخصوص، يبدو أن المبادئ الاحترازيَّة المبينة في تقريرنا لها علاقة بالعمليات العسكرية، سواء منها المتعددة الأطراف أو التي هي من جانبٍ واحدٍ،  ضد آفة الإرهاب. فلا نرى حرجاً من حيث المبدأ في اتخاذ تدابير عسكرية مركَّزة ضد الإرهابيين الدوليين ومن يؤوونهم. ولكن القوة العسكرية يجب أن تمارَسَ دائماً بطريقة مبدئية، وإن مبادئ النية الصحيحة والملجأ الأخير والوسائل التناسبية والاحتمالات المعقولة، المبينة في تقريرنا، تنطبق كلُّها، في الظاهر، على مثل هذه التدابير.
تقدير
يرد وصف مفصل للبحوث والمشاورات التي بني عليها تقرير اللجنة والطريقة التي استخدمتها في أداء مهمتها في المجلد المرافق لهذا التقرير، الذي يضم البحوث وثبت المراجع والمعلومات الأساسية. وإننا مدينون لوزير الخارجية الكندي السابق، السيد لويد أكسويرثي، الذي أنشأ اللجنة ورَأَسَ هيئتنا الاستشارية، ولخلفه السيد جون مانلي، الذي واصل المسيرة؛ وللفريق الكندي الذي قدم لنا الدعم برئاسة جيل سِنكلير وهايدي هولان، على ما أبدوه من حماس وطاقة متناهيتين؛ ولفريق البحوث برئاسة توماس وايس وستانليك سامكانج على ما أبدوه من تفانٍ وسداد مشورة. واستفدنا كثيراً في عملنا أيضاً من عمل كثيرين غيرنا أجروا بحوثاً ونشروها في القضايا الكثيرة المختلفة التي طرقها هذا التقرير، وقد أبدينا تقديرنا لهذه المساهمات بصورة أتَمَّ في المجلد التكميلي. ولم نحاول أن ننشر في تقريرنا عملاً قام به غَيْرُنا بصورة جيدةٍ وتامةٍ في مكان آخر -مثال ذلك موضوع الوقاية والقضايا التنفيذية -ولكننا مدركون جيِّداً للديون الكثيرة التي نحن مدينون بها.
ونود على وجه الخصوص أن نؤكد الفائدة التي استفدناها من سلسلة مناقشات المائدة المستديرة الطويلة التي أجريناها في أوتاوا وباريس وبيجين وجنيف وسانت بيترسبيرغ وسانتياغو والقاهرة ولندن ومابوتو ونيو دلهي ونيويورك وواشنطن. وشارك في الاجتماعات ممثلون للحكومات والمنظمات الحكومية-الدولية، والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، وللجامعات ومعاهد البحوث وهيئات المفكرين -بلغ مجموعهم أكثر من 200 شخص. وأثبتت اجتماعات المائدة المستديرة هذه أنها مصادر غنية جداًّ بالمعلومات والأفكار والمناظير السياسية المتنوعة وبيئة عالمية حقيقية ممتازة يمكن للجنة أن تختبر فيها آراءها هي نفسها وهي تطوِّرُها. وإن كنا بتقريرنا قد نجحنا في تحقق فتح جديد، ووجدنا طرقاً جديدة وبناّءة لمعالجة المعضلات السياسية القائمة منذ زمن بعيد والمرتبطة بالتدخل لأغراض الحماية البشرية، فإن هناك أشخاصاً كثيرين غيرنا يحق لهم أن يدَّعوا لأنفسهم حصةً في هذا النجاح.
غاريث إيفانز
محمد سحنون
رئيسا اللجنة
موجز
مسؤولية الحماية: المبادئ الأساسية
(1) مبادئ أساسية
ألف – سيادة الدولة تنطوي على المسؤولية، وتقع على عاتق الدولة نفسها المسؤولية الرئيسية عن حماية سكانها.
باء – حيث يتعرض السكان لأذىً خطيرٍٍ نتيجة لحرب داخلية، أو عصيان، أو قمع، أو إخفاق الدولة، وتكون الدولة المعنية غير راغبة أو غير قادرة على وقف الأذى أو تجنُّبه يتنحى مبدأ عدم التدخل لتحل محله المسؤولية الدولية عن الحماية.
(2) الأسُس
تكمُنُ أسُس المسؤولية عن الحماية كمبدأ هادٍ للمجتمع الدولي فيما يلي:
ألف – الواجبات المتأصلة في مفهوم السيادة.
باء – مسؤولية مجلس الأمن، بموجب المادة 24 من ميثاق الأمم المتحدة، عن حفظ السلام والأمن الدوليين.
جيم – الالتزامات القانونية المحددة بموجب الإعلانات والاتفاقيات والمعاهدات المتعلقة بحقوق الإنسان وحماية الإنسان، والقانون الإنساني الدولي والقانون الوطني.
دال – الممارسة المتطورة للدول والمنظمات الإقليمية ومجلس الأمن نفسه.
(3) العناصر
تشتمل مسؤولية الحماية على ثلاث مسؤوليات محددة:
ألف – مسؤولية الوقاية: معالجة الأسباب الجذرية والأسباب المباشرة للصراع الداخلي وغيره من الأزمات التي هي من صنع الإنسان، والتي تعرض السكان للخطر.
باء – مسؤولية الردِّ: الاستجابة لأوضاع تنطوي على حاجة إنسانية ماسة بالتدابير المناسبة، وهذه قد تشمل تدابير قسرية كالجزاءات، وإقامة دعوى دولية، وفي أقصى حالات التطرف – التدخل العسكري.
جيم – مسؤولية إعادة البناء: تقديم مساعدة تامة، وبخاصة بعد تدخل عسكري، في الإنعاش والتعمير والمصالحة ومعالجة أسباب الضرر الذي قُصِدَ بالتدخل أن يوقفه أو يتجنبه.
(4) الأولويات
                    ألف – الوقايةُ أهم بُعدٍٍ بعينه من أبعاد مسؤولية الحماية: يجب أوَّلاً استنفاد جميع خيارات الوقاية قبل التفكير في التدخل، وينبغي تكريس مزيد من الالتزام والموارد له.
                    باء – ينبغي أن تنطوي ممارسة المسؤولية، سواءٌ لمنع وقوع ضرر أو للرد عليه، دائماً على النظر في تدابير أقل اقتحاماً وأقل قسراً قبل تطبيق تدابير أكثر قسراً واقتحاماً.
 
مسؤولية الحماية: مبادئ التدخل العسكري
(1) عتبة القضية العادلة
التدخل العسكري لأغراض الحماية البشرية تدبير استثنائي فوق العادة. ويجب، لتبريره، أن يلحق بالناس أو يكون من المرجح أنه يوشك أن يلحق بالناس أذىً خطيرٌ لا يمكن إصلاحه من النوع التالي:
ألف – خسارة كبيرة في الأرواح، واقعة فعلاً أو يُخشى أن تقع سواء أكانت أم لم تكن بنية الإبادة الجماعية، وتكون نتيجة لتصرُّف متعمَّد من قِبَلِ الدولة أو نتيجة إهمال الدولة أو عدم قدرتها على التصرف، أو نتيجة لإخفاق الدولة؛ أو
باء – عملية ’تطهير عرقي‘ كبيرة، واقعة فعلاً أو يُخشى أن تقع، سواءٌ أكان تنفيذُها بالقتل أو الإبعاد كرهاً أو القيام بأعمال إرهابية أو بالاغتصاب.
(2) المبادئ الاحترازية
ألف – النية الصحيحة: يجب أن يكون الغرض الرئيسي للتدخل، كائناً ما كان لدى الدول المتدخلة من دوافع أخرى، وقف أو تفادي معاناة الناس. ومن الأفضل لضمان النية الصحيحة أن تكون العملية متعددة الأطراف، مؤيَّدةً بوضوحٍ من الرأي الإقليمي والضحايا المعنيين.
باء – الملجأ الأخير: لا يمكن تبرير التدخل العسكري إلا بعد استطلاع كل الخيارات غير العسكرية لمنع وقوع الأزمة أو حلها سلمياًّ، ووجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن التدابير الأقل من التدخل العسكري لن تنجح.
جيم – الوسائل التناسبية: يجب أن يكون نطاق التدخل العسكري المخطَّط له ومدته وشدته عند الحد الأدنى اللازم لضمان هدف الحماية البشرية المحدَّد.
دال – الاحتمالات المعقولة: يجب أن تكون ثمة فرصة معقولة للنجاح في وقف أو تفادي المعاناة التي كانت مبررا للتدخل، ويُستبعد أن تكون عواقب العملية أسوأ من عواقب عدم التصرف.
(3) الإذن الصحيح
ألف – ليس ثمة هيئةٌ أفضل أو أنسب من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تأذن بتدخل عسكري لأغراض الحماية البشرية. وليست المهمة إيجاد بدائل لمجلس الأمن كمصدر للإذن، وإنما جعل مجلس الأمن يعمل بصورة أفضل مما عمل.
باء – ينبغي في جميع الحالات طلب الإذن من مجلس الأمن قبل القيام بأي تدخل عسكري. ويجب على الذين يدعون إلى التدخل العسكري أن يقدموا طلباً رسمياًّ إلى المجلس للحصول على الإذن، أو أن يطلبوا من المجلس أن يثير المسألة بمبادرةٍ منه، أو أن يطلبوا من الأمين العام أن يثيرها بموجب المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة.
جيم – يجب أن يتناول مجلس الأمن على الفور أي طلب إذنٍ بالتدخل حيث توجد ادعاءات بوقوع خسارة كبيرة في الأرواح أو تطهير عرقي. ويجب أن يلتمس في هذا الصدد تحقُّقاً كافياً على الطبيعة من وجود حقائق أو أحوال على الطبيعة تؤيِّد التدخل العسكري.
دال – يجب أن يوافق الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن على عدم استخدام حق الفيتو في الأمور التي لا تهم المصالح الحيوية لدولهم، لمنع إصدار قرارات تأذن بالتدخل العسكري لأغراض الحماية البشرية تكون بدون الفيتو قد حصلت على تأييد الأغلبية.
هاء – إذا رفض مجلس الأمن اقتراحاً أو عجز عن تناوله في وقت معقول، هناك خياران بديلان:
1 – أن تنظر الجمعية العامة، في دورة استثنائية خاصة، في الأمر بموجب إجراء “الاتحاد من أجل السلام”؛ و
2 – أن تتخذ منظمات إقليمية أو دون الإقليمية، كل في مجال اختصاصها، إجراءات بموجب الفصل الثامن من الميثاق، رهناً بطلبها في وقت لاحق إذناً من مجلس الأمن.
واو – يأخذ مجلس الأمن في الحسبان، في جميع مداولاته، أنه إذا قصر في القيام بمسؤوليته عن الحماية في أوضاع تهز الضمير وتصرخ طلباً للنجدة فإن الدول المعنية ربما لا تستبعد سبلاً أخرى استجابةً لخطورة الوضع وإلحاحه -وأن الأمم المتحدة ستفقد بذلك مكانتها ومصداقيتها.
(4) المبادئ التنفيذية
ألف – أهداف واضحة؛ ولاية واضحة لا غموض فيها في جميع الأوقات؛ موارد كافية لتحقيق الغرض.
باء – وجود نهج عسكري مشترك بين الأطراف المعنية؛ وحدة القيادة؛ وضوح الاتصالات وتسلسل القيادة وضوحاًً لا مراء فيه.
جيم – القبول بحدود لاستخدام القوة وزيادتها بصورة تدريجية، على أن يكون الهدف حماية السكان لا هزيمة دولة.
دال – قواعد اشتباك تناسب المفهوم التنفيذي؛ وتكون دقيقة؛ وتعكس مبدأ التناسب؛ وتنطوي على الاتفاق التام مع القانون الإنساني الدولي.
هاء – القبول بأن حماية القوة لا يمكن أن تصبح الهدف الرئيسي.
واو – التنسيق إلى أبعد حد ممكن مع المنظمات الإنسانية.
 
1 -التحدي في السياسة العامة
معضلة التدخل
1-1 كان “التدخل الإنساني” مثار جدل حين يحدث وحين لا يحدث. لقد عرَّت رواندا في عام 1994 أهوال عدم التصرف تعرية كاملة. فقد كانت الأمانة العامة للأمم المتحدة وبعض الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن يعلمون أن مسؤولين مرتبطين بالحكومة القائمة آنذاك كانوا يخططون لإبادة جماعية؛ وكانت قوات الأمم المتحدة موجودة وإن كان ذلك بأعداد غير كافية في البداية؛ وكانت ثمة استراتيجيات معقولة لمنع وقوع المذبحة التي وقعت فيما بعد أو على الأقل لتخفيف حدتها. ولكن مجلس الأمن رفض اتخاذ التدابير اللازمة. كان ذلك إخفاقاً للإرادة الدولية – والشجاعة المدنية – على أعلى المستويات. ولم تكن عواقبه مجرد كارثة إنسانية لرواندا: فقد أدت الإبادة الجماعية إلى زعزعة استقرار منطقة البحيرات الكبرى بأسرها وما زالت تزعزعه. واستنتج كثير من الإفريقيين بعد ذلك أنه على الرغم من الكلام الطناّن عن عالمية حقوق الإنسان انتهى الأمر إلى بيان أنَّ بعضَ الأرواح البشرية أقلُّ أهميةً من غيرها بكثيرٍ في نظر المجتمع الدولي.
1-2 كوسوفو – حيث وقع التدخل في عام 1999 – ركزت الانتباه على كل الجوانب الأخرى للحُجَّة. فقد أثارت العملية أسئلة هامة عن شرعية التدخل العسكري في دولة ذات سيادة. هل كانت القضية عادلة: هل كان انتهاك حقوق الإنسان الذي ارتكبته سلطاتُ بلغراد أو هددت بارتكابه خَطِراً إلى حد يكفي لتبرير تدخل خارجي؟ هل تلاعب الذين يسعون إلى الانفصال بالتدخل الخارجي لتحقيق مقاصدهم السياسية؟ هل استُطْلِعَت كل الوسائل السلمية لحل الصراع استطلاعاً تاماًّ؟ هل أُعطِيَ إذنٌ مناسبٌ بالتدخُّل؟ كيف يمكن تبريرُ تجاوُزِ “ائتلاف دولٍ راغبةٍ” منظومةَ الأمم المتحدة وتهميشَها بتصرفه دون موافقة مجلس الأمن؟ هل أدت الطريقة التي نُفِّذَ بها التدخُّل إلى جعل وضع حقوق الإنسان الذي حاول التدخل تصحيحه أسوأ مما كان فعلاً؟ أم -إزاء كل ذلك -لو لم يتدخل حلف شمال الأطلسي لكانت كوسوفو في أحسن الأحوال موقعاً لحرب أهلية مستمرة دموية ومزعزعة للاستقرار، وفي أسوأ الأحوال موقعاً لمذبحةِ إبادةٍ جماعيةٍ كتلك التي حصلت في البوسنة قبل ذلك بأربع سنوات؟
1-3 الحالة في البوسنة -إخفاق الأمم المتحدة وآخرين على وجه الخصوص في الحيلولة دون قتل آلاف المدنيين الذين التمسوا اللجوء في “المناطق الآمنة” التابعة للأمم المتحدة في سريبرينيتسا في عام 1995 -حالة أخرى كان لها أثر كبير على المناقشة المعاصرة للسياسة العامة حول التدخل لأغراض الحماية البشرية. فقد أثارت مبدأ كون التدخل بمثابة وعد للناس المحتاجين: وعدٍ نُكِثَ بقسوةٍ. ومع ذلك كانت هناك حالة أخرى هي فشل عمليات الأمم المتحدة للسلام في الصومال وفي النهاية انسـحابها منها في الفترة 1992-1993، حين دُمِّرَ تدخلٌ دولي لإنقاذ الأرواح وإعادة النظام إلى نصابه نتيجة لعيوب التخطيط وسوء التنفيذ والاعتماد المفرط على القوة العسكرية.
1-4 حدثت هذه الحالات الأربع في وقت كانت توجد فيه توقعات كبيرة لتدابير جماعية فعالة عقب انتهاء الحرب الباردة. وكان لهذه الحالات الأربع جميعها -رواندا، وكوسوفو، والبوسنة، والصومال -أثر عميق على كيفية النظر لمشكلة التدخل وتحليلها وتوصيفها.
1-5 رُسِمَت الخطوط الأساسية للمناقشة المعاصرة للسياسة العامة، التي تدور باستمرار في مقر الأمم المتحدة في نيويورك وفي عواصم العالم، بوضوح كافٍ. فيرى البعض أن المجتمع الدولي لا يتدخل بما فيه الكفاية؛ ويرى آخرون أنه يتدخل في أحيانٍ أكثر من اللازم. ويرى البعض أن القضية الحقيقية الوحيدة هي ضمان كون التدخلات القسرية فعالة؛ ويرى آخرون أن المسائل المتعلقة بالشرعية والعملية وإمكانية سوء استخدام السوابق أكبر بكثير من ذلك. ويرى البعض أن التدخلات الجديدة تُبَشِّرُ بعالمٍ جديد تتفوق فيه حقوق الإنسان على سيادة الدول؛ ويرى آخرون أنها تُنذر بعالمٍ تتغطرس فيه الدول الكبرى على الدول الصغرى متلاعبة بالكلام عن الإنسانية وحقوق الإنسان. وقد كشف الجدال عن انقسامات أساسية في المجتمع الدولي. ومن الضروري أن تُحَلَّ هذه الانقسامات، لأجل جميع هؤلاء الضحايا الذين يعانون ويموتون عندما تفشل القيادة وتفشل المؤسسات.
1-6 تأمل الأمين العام للأمم المتحدة، السيد كوفي عنان، في خطاب له أمام الدورة الرابعة والخمسين للجمعية العامة في أيلول/سبتمبر 1999، في “احتمالات الأمن البشري والتدخل في القرن القادم.” وأشار إلى حالات فشل مجلس الأمن في التصرف في رواندا وكوسوفو، وتحدى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أن “تجد أرضية مشتركة للتمسك بمبادئ الميثاق، والتصرف دفاعاً عن إنسانيتنا المشتركة.” وحذر الأمين العام من أنه إذا لم يستطع ضمير الإنسانية المشترك … أن يجد في الأمم المتحدة أكبرَ منبرٍ له فسيكون ثمة خطر كبير من أن يبحث عن السلام والعدل في أماكن أخرى.” وكرر في تقريره إلى الجمعية العامة بمناسبة الألفية بعد ذلك بسنة الحديث عن المعضلة وكرر التحدي:
… إذا كان التدخل الإنساني يمثِّلُ حقاًّ اعتداءً غيرَ مقبول على السيادة، فعلى أي نحوٍ ينبغي علينا أن نستجيب لحالة شبيهة برواندا أو بسريبرينيتسا -للانتهاكات الجسيمة والمنهجية لحقوق الإنسان التي تسيء إلى كل مبدأ من مبادئ إنسانيتنا المشتركة؟
1-7 في أيلول/سبتمبر 2000 استجابت حكومة كندا لتحدي الأمين العام بأن أعلنت إنشاء هذه اللجنة الدولية المستقلة المعنية بالتدخل وسيادة الدول. وكانت الولاية المنوطة بنا، بوجه عام، هي بناء تفَهُّمٍ أوسعَ قاعدةً لمشكلة التوفيق بين التدخل لأغراض الحماية البشرية وبين السيادة؛ وعلى وجهٍ أخَصَّ محاولة تطوير تَوافُقٍ عالمي في الرأي السياسي حول كيفية الانتقال من التُّـرَّهات -وفي كثير من الأحيان الشلل -إلى العمل في إطار النظام الدولي، وبخاصة من خلال الأمم المتحدة. قُصِدَ بأعضاء اللجنة أن يشكلوا انعكاساً عادلاً لمناظير البلدان المتقدمة النمو والبلدان النامية، وضمان كوننا نمثل فيما بيننا نطاقاً واسعاً من الخلفيات الجغرافية، ووجهات النظر، والخبرات -وأن تعكس آراؤنا، في البداية على الأقل، الخطوط الرئيسية للمناقشة الدولية الجارية. وإذا استطعنا أن نتوصل إلى تَوافُقٍ في الآراء فيما بيننا فربما يمكننا أن نشجع التوصل إليه في المجتمع الدولي الأوسع نطاقاً.
1-8 عقدت اللجنة أول اجتماع لها في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2000 في أوتاوا. وهناك رسمنا استراتيجية مدتها سنة للنهوض بأعباء ولايتنا، واتفقنا على أن تكون طريقتنا في العمل شفافة وشاملة وعالمية. وأيدت حكومة كندا إنشاء مديرية للبحوث وتبنت، بمساعدة من عدد من الحكومات الأخرى والمؤسسات الكبيرة، ونظمت سلسلة من اجتماعات المائدة المستديرة الإقليمية والمشاورات الوطنية بهدف إطلاع اللجنة على عدد كبير متنوع من وجهات النظر، وفي الوقت نفسه ساعدت على إطلاع الرأي العام على عملنا وأهدافنا. ورُكِّزَ بوجهٍ خاصٍّ على ضرورة ضمان سماع آراء الناس المتأثرين وأخذها في الاعتبار، بالإضافة إلى آراء الحكومات والمنظمات الحكومية الدولية والمنظمات غير الحكومية وممثلي المجتمع المدني.
1-9 وكانت اللجنة منذ البداية ملتزمة التزاماً قوياًّ بإجراء مشاورات على أوسع نطاق ممكن في العالم بأسره، بما في ذلك جميع البلدان الخمسة ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن. وبناءً على ذلك، عُقِدَت خلال السنة اجتماعات مائدة مستديرة وأجريت مشاورات في أوتاوا، وباريس، وبيجين، وجنيف، وسانت بيترسبيرغ، وسانتياغو، والقاهرة، ولندن، ومابوتو، ونيو دلهي، ونيويورك، وواشنطن. وكانت المناقشات التي دارت في هذه الاجتماعات كلُّها دون استثناء غنية ومجزية؛ ويرد موجز لها في المجلد التكميلي المرافق لهذا التقرير. وبالإضافة إلى ذلك حضر أعضاء فرادى في اللجنة وأعضاء فرادى في فريق البحوث عدداً كبيراً من المؤتمرات والحلقات الدراسية -كان ذلك في الغالب بناء على دعوات خاصة أو بصفتهم كممثلين. وبذلت اللجنة أيضاً جهداً خاصاًّ للتشاوُرِ مع سلسلة عريضة من ذوي الرأي الأكاديميين والخبراء؛ ويرد جانب كبير من هذا التحليل وهذه المشورة في ورقات البحوث وثبت المراجع الواردة في المجلد التكميلي.
البيئة الدولية المتغيرة
 
1-10 إن قضايا القرن الحادي والعشرين ومشاغله تطرح تحديات جديدة وغالباً ما تكون مختلفة اختلافاً أساسياًّ عن التحديات التي واجهت العالم في عام 1945 حين تأسٍّست الأمم المتحدة. وبينما ظهرت حقائق وتحديات جديدة كذلك ظهرت توقُّعات جديدة لتدابير ولمعايير سلوك جديدة في الشؤون الوطنية والدولية. فمنذ الهجمات الإرهابية التي وقعت على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 أيلول/سبتمبر 2001، مثلاً، أصبح من البيِّن أن الحرب التي يجب أن يخوضها العالم ضد الإرهاب -وهي حرب بلا حدودٍ مُتنازَعٍ عليها ضد عدوٍّ غير منظور إلى حدٍّ كبير -حرب لم يسبق لها مثيل.
1-11 لقد أُنشئت مؤسسات دولية كثيرة لتلبية احتياجات هذه الظروف المتغيرة. غير أن ولايات وقدرات المؤسسات الدولية، من النواحي الرئيسية، لم تواكب الاحتياجات الدولية أو التوقعات الحديثة. وقضية التدخل الدولي لأغراض الحماية البشرية، فوق كل شيء، مثال واضح لا مراء فيه للتدابير المتضافرة التي نحتاج إليها حاجة ماسَّة للمواءمة بين القواعد والمؤسسات الدولية من جهة والاحتياجات والتوقعات الدولية من جهة أخرى.
1-12 المناقشة الجارية حالياًّ حول التدخل لأغراض الحماية البشرية هي في حد ذاتها ناتج وانعكاس في آن واحدٍ لمدى التغيُّر الذي حدث منذ تأسيس الأمم المتحدة. وتجري المناقشة الراهنة في سياق سلسلة من الجهات الفاعلة على الصعيد الدولي موسعة توسيعاً كبيراً، منها الدولة، والكيان الذي هو غير دولة، والمؤسسة، وبين هذه الجهات تفاعُلٌ وترابُطٌ واضحان بصورة متزايدة. إنها مناقشة تعكس مجموعات جديدة من القضايا وأنواعاً جديدة من الاهتمامات؛ مناقشة تدور في إطار معايير سلوك جديدة للدول وللأفراد، وفي سياق توقعات تدابير متزايدة زيادة كبيرة. وهي مناقشة تجري في إطار مؤسَّسيٍّ بَعَثَ، منذ انتهاء الحرب الباردة، أملاً في احتمال اتخاذ تدابير دولية فعالة لمعالجة قضايا السلام والأمن وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة على نطاق عالمي.
 
الجهات الفاعلة الجديدة
 
1-13 مع الجهات الفاعلة الجديدة -وليس أقلها الدول الجديدة، إذ ارتفع عدد أعضاء الأمم المتحدة من 51 عضواً في عام 1945 إلى 189 عضواً في الوقت الحاضر -جاءت سلسلة عريضة من الأصوات والمنظورات والمصالح والخبرات والتطلعات الجديدة. وقد أضافت هذه الجهات الدولية الفاعلة الجديدة، مُجتمعةً، عمقاً ونسيجاً للوحة المجتمع الدولي المتزايدة غِنىً، ومصداقيةً هامةً للمؤسسات ودرايةً عمليةً بالمناقشة الأوسع نطاقاً.
1-14 من أبرز الجهات الفاعلة الجديدة الهامة جهات فاعلة وآلياّت مؤسسية، لا سيما في مجالات حقوق الإنسان والأمن البشري. ومن بينها، في جملة مؤسسات أخرى، مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، وكلاهما أنشئ في عام 1993، وشقيقتاها المحكمة الدولية لرواندا التي أنشئت في عام 1994، والمحكمة الدولية لسيراليون التي أنشئت في عام 2001. أما المحكمة الجنائية الدولية، التي تقرر إنشاؤها في عام 1998، فستبدأ عملياتها عندما يصدق على نظامها الأساسي 60 بلداً. وبالإضافة إلى المؤسسات الجديدة أصبحت المؤسسات القائمة من قبل، مثل مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، ولجنة الصليب الأحمر الدولية، والاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، أكثر نشاطاً ما كانت عليه في أي وقت مضى.
1-15 يكاد يعدل ذلك في الأهمية ظهورُ جهاتٍ فاعلة جديدة كثيرة في الشؤون الدولية من غير الدول -من بينها على وجه الخصوص عددٌ كبير من المنظمات غير الحكومية التي تتناول مسائل عالمية؛ وعدد متزايد من المؤسسات الإعلامية والأكاديمية تنتشر جماهيرها في كل أرجاء العالم؛ ومجموعة متزايدة التنوُّع من الجهات الفاعلة المسلحة من غير الدول تتراوح من الإرهابيين الوطنيين والدوليين إلى حركات التمرد التقليدية ومختلف تجمُّعات الجريمة المنظمة. وهذه الجهات الفاعلة، التي ليست دولاً، الجيد منها والسيِّئ، قد أَرغَمَتْ على إجراء المناقشة حول التدخل لأغراض الحماية البشرية أمام جمهورٍ أوسع، بينما أضافت في الوقت نفسه عناصر جديدة إلى جدول الأعمال.
 
القضايا الأمنية الجديدة
 
1-16 تجري المناقشة الراهنة حول التدخل لأغراض الحماية البشرية في سياقٍ لا يقتصر على وجود جهات فاعلة جديدة، وإنما في سياق مجموعات جديدة من القضايا أيضاً. فأبرز الظواهر الأمنية الجديدة ظاهرةُ انتشار الصراعات المسلحة داخل الدول. وركزت هذه الصراعات في معظم الحالات على المطالبة بمزيد من الحقوق السياسية وأهدافٍ سياسية أخرى، وكانت هذه المطالب في كثير من الحالات تُقمَعُ بالقوة إباّنَ الحرب الباردة. وذهب بانتهاء الحرب الباردة الكبح المصطنع، الذي كان في الغالب وحشياًّ جداًّ، الذي فرضته سياسة الحرب الباردة على التطور السياسي لكثير من الدول والمجتمعات -لا سيما في العالم النامي وفي الكتلة الشرقية السابقة. وفي بلدانٍ كثيرةٍ كانت نتيجة انتهاء الحرب الباردة توكيداً جديداً لإشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحسن الإدارة. ولكن في دول كثيرة أخرى كانت النتيجة حرباً داخلية أو صراعاً أهلياًّ -وفي أكثر الأحيان كانت العواقب السياسية والإنسانية قبيحةً جداًّ.
1-17 وفي حالات أخرى وُجِّهَ الصراع إلى الاستيلاء على الموارد وإلى النهب. وأدى ضعف هياكل الدولة ومؤسساتها في بلدانٍ كثيرةٍ إلى زيادة التحديات والمخاطر التي تواجه بناء الدولة، وفي بعض الأحيان أغرى القوات المسلحة بالاستيلاء على موجودات قَيِّمَةِ للدولة، كالماس والخشب والموارد الطبيعية الأخرى، واستغلالها لصالح هذه القوات، ناهيك عن المواد الخام لإنتاج المخدرات.
1-18 وازدادت هذه الصراعات الداخلية تعقيداً وفتكاً بمجيء التكنولوجيات والاتصالات الحديثة، وعلى وجه الخصوص بانتشار الأسلحة الرخيصة البالغة القوة التدميرية التي تجد طريقها إلى أيدي الجنود الأطفال وغيرهم. كثيرٌ من هذا يحدث في المجتمعات الفقيرة جداًّ أو المجتمعات التي توجد فيها سـلعة قَيِّمَةٌ واحدة -كالنفط أو الماس -فتصبح هذه السلعة بسرعة وقوداً لاقتصاد حربٍ تدور رحاها طول الوقت. وفي هذه الأماكن تفقد الدولة احتكارها لوسائل العنف ويصبح العنف طريقةَ معيشةٍ لها عواقبُ وخيمةٌ على المدنيين الذين يجدون أنفسهم في نقطة تقاطع مسارَيْ نيران المتحاربين.
1-19 من الاتجاهات التعيسة للصراعات المعاصرة زيادة تعرُّض المدنيين للخطر، وغالباً ما يكونون مُستهدَفين عن قصد. وفي بعض الأحيان يكون النزوح الدائم للسكان المدنيين هدفاً رئيسياًّ للصراع؛ وكان ثمة أيضاً قلق متزايد من استخدام الاغتصاب بصورة منهجية متعمدة بدافع الاستفزاز لاستبعاد أناسٍ من مجموعةٍ معيَّنة. وفي حالاتٍ كثيرة أيضاً أدت الجهود المبذولة لقمع الانشقاق المسلح – وأحياناً غير المسلح) إلى اتخاذ الحكومات تدابير مفرطة وغير متناسبة، مما سبب في بعض الحالات معاناة السكان المدنيين معاناةً مفرطةً لا مبرر لها. وفي حالات قليلة كانت أنظمة الحكم تشن حملات إرهابٍ على سكانها، أحياناً باسم العقيدة وأحياناً بدافع الكراهية العنصرية أو الدينية أو الإثنية؛ وأحياناً لمجرد تحقيق مكاسب شخصية وللنهب. وفي حالات أخرى كانت تؤيد أو تتغاضى عن حملات الإرهاب الموجهة ضد بلدان أخرى، مما أسفر عن دمار كبير وخسائر كبيرة في الأرواح.
1-20 ينظر الغرب المزدهر في كثير من الأحيان إلى الحروب الدائرة داخل الدولة الواحدة على أنها مجرد مجموعة من الأزمات الخفيَّة غير المتصلة بعضها ببعض تقع في مناطق نائية وغير هامة. والواقع أن ما يحدث هو عملية تَشَنُّجٍ مؤلمة تتفتَّتُ فيها دول وتتشكَّل دول أخرى، وهي آخذة بتغيير النظام العالمي نفسه. وعلاوة على ذلك، يكون العالم الغني ضالعاً ضلوعاً كبيراً في هذه العملية. فالصراعات الأهلية تشعلها أسلحة وتحويلات مالية آتية من العالم المتقدم النمو، وآثارها التي تزعزع الاستقرار يشعر بها العالم المتقدم النمو من كل الوجوه -من الإرهاب المترابط ترابطاً عالمياًّ إلى تدفقات اللاجئين، إلى تصدير المخدرات، إلى انتشار الأمراض المعدية، إلى الجريمة المنظمة.
1-21 هذه الاعتبارات تعزز رأي اللجنة القائل إن الأمن البشري في الحقيقة غير قابل للتجزئة. ولم يعد ثمة شيء يقال إنه “كارثة إنسانية وقعت في بلدٍ بعيدٍ لا نعرف عنه شيئاً يُذكَر.” ففي 11 أيلول/سبتمبر 2001 ضرب الإرهاب العالمي، الذي يضرب جذوره في صراعات معقدة في بلدان نائية، الولايات المتحدة في عُقرِ دارها: وأثبتت خطوط الدفاع القارِّي التي يستحيل عبورها أنها مجرد أوهام حتى لأقوى دولة في العالم. وفي الوقت نفسه كان نحو 40 في المائة من ضحايا الهجوم الذي وقع على مركز التجارة العالمية من غير الأمريكيين، ينتمون إلى نحو 80 بلداً. وفي عالم مترابط يتوقف الأمن فيه على إطار من الكيانات المستقرة ذات السيادة، يمكن لوجود دولٍ هشَّةٍ، أو دولٍ عاجزةٍ، أو دولٍ تؤوي، لضعفٍ أو سوءِ نيَّةٍ، أشخاصاً خطرين على الآخرين، أو دولٍ لا تستطيع المحافظة على نظامها الداخلي إلا بانتهاكاتٍ خطيرةٍ لحقوق الإنسان، أن يشكل خطراً على الناس في كل مكان.
1-22 كل هذا يواجه المجتمع الدولي بمعضلات شديدة. فإن ظل نائياً بنفسه تعرض لخطورةِ أن يصبح شريكاً بوقوفه موقف المتفرج على مجزرة وتطهير عرقي وحتى إبادة جماعية. وإنْ تَدَخَّلَ المجتمعُ الدولي فربما يتمكن وربما لا يتمكن من تخفيف حدة هذه الإساءات. لكن حتى عندما يتدخل يعني التدخل أحياناً الانحياز إلى جانب دون الآخر في صراعات داخل الدولة. وعندما يفعل المجتمع الدولي ذلك فربما لا يعدو أن يساعد على زيادة تفتت نظام الدول. وقد تمكنت التدخلات في البلقان من تقليل عدد القتلى المدنيين ولكنها لم تفلح بعد في تحقيق استقرار نظام الدول في المنطقة. وكما يتبين من التدخل في حالتي كوسوفو والبوسنة كلتيهما، حتى عندما يكون هدف التدابير الدولية، كما ينبغي له أن يكون، حمايةَ الناس العاديين من انتهاكاتٍ جسيمة منهجية، ربما يكون من الصعب تجـنُّبُ إلحاق أذىً أكثرَ من تحقيق منفعة.
1-23 تظل إقامة نظام مستقر بعد التدخل لأغراض الحماية البشرية تحدياًَ مساوياً في مقداره للتدخل. والتوصل إلى تَوافُقٍ في الرأي حول التدخل ليس مجرد مسألة تقرير من الذي ينبغي أن يأذن به ومتى يكون التدخل مشروعاً. وإنما هو أيضاً مسألة تحديد من يقوم به لكيلا تتلطخ الأهداف الجيدة بوسائل غير مناسبة. فاستراتيجيات الأمم المتحدة لحفظ السلام، التي وُضِعَت لعهد الحرب بين الدول وصُمِّمت لمراقبةِ وتنفيذِ وقفٍ لإطلاق النار يتفق عليه المتحاربان، ربما لم تَعُدْ – كما هو معتَرَفٌ به على نطاق واسع -مناسبة لحماية المدنيين الذين يجدون أنفسهم محصورين في وسط صراعات بين دولٍ ومتمردين. والتحدي في هذا السياق هو إيجاد تكتيكات واستراتيجيات للتدخل العسكري تملأ الفجوة الكبيرة الراهنة بين مفاهيم حفظ السلام التي عفّى عليها الزمن والعمليات العسكرية الكاملة النطاق التي يمكن أن تترك آثاراً ضارة بالمدنيين.
1-24 هناك تحدٍّ آخر هو: وضع استجابات متماسكة. فبفضل وسائط الإعلام الحديثة يلقى بعض الأزمات الإنسانية فيضاً من الانتباه بينما تظل أزمات أخرى رهينة اللامبالاة والإهمال. وبعض الأزمات يُبالَغُ في تغطيتها الإعلامية وتؤدي الدعوات غير المدروسة إلى التدخل إلى تشويه استجابة المجتمع الدولي بطريقة تجمع بين التضارُبِ وعدمِ الانضباط. ولكن الاتِّساقَ التام ليس دائماً ممكناً: فعدد الأزمات التي لها أبعاد إنسانية خطيرة يحول دون الاستجابة استجابةً فعالةً في كل  حالة. وعلاوة على ذلك، هناك حالات يستحيل فيها اتخاذ تدابير دولية بسبب معارضة واحد من الأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الأمن أو معارضة دولة كبيرة أخرى. لكن هل يمكن لحقيقةِ أنَّ العمل الدولي الفعال ليس دائماً ممكناً أن تكون ذريعة لعدم التصرف حيث تكون الاستجابة الفعالة ممكنة؟
 
مطالب وتوقعات جديدة
 
1-25 تجري المناقشة الراهنة بشأن التدخل لأغراض الحماية البشرية أيضاً في سياق تاريخي وسياسي وقانوني تمر فيه المعايير الدولية لسلوك الدول والأفراد بمرحلة نشوءٍ وتَطَوُّرٍ، بما في ذلك تطوُّرُ قواعد وآليات جديدة وأقوى لحماية حقوق الإنسان. فقد أصبحت حقوق الإنسان الآن جزءاً يقع في صلب القانون الدولي، وأصبح احترام حقوق الإنسان موضوعاً مركزياًّ ومسؤوليةً مركزيةً في العلاقات الدولية. ومن المعالم الرئيسية على طريق هذا التقدم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ واتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولان الإضافيان بشأن القانون الإنساني الدولي في المنازعات المسلحة؛ واتفاقية عام 1948 لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها؛ وعهدا عام 1966 الخاصان بالحقوق المدنية والسياسية وبالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ واعتماد النظام الأساسي لإنشاء محكمة جنائية دولية في عام 1998. وإنَّ هذه الاتفاقات والآليات، حتى وإن كان تنفيذها في بعض الحالات غير تام، غيَّرَت التوقعات على جميع المستويات تغييراً كبيراً فيما هو مقبول من سلوك الدول والجهات الفاعلة الأخرى وما هو غير مقبول.
1-26 تعني الولاية القضائية العالمية المنشأة باتفاقيات جنيف والبروتوكولين الإضافيين (وكذلك باتفاقية مناهضة التعذيب) أن أية دولة طرف يوجد فيها شخص متهم بالجرائم الوارد تعدادها في هذه الصكوك يمكنها أن تقدم ذلك الشخص للمحاكمة. والولاية القضائية العالمية موجودة أيضاً بموجب القانون الدولي العرفي، وتشريعات الدول ذات الصلة به، على الإبادة الجماعية والجرائم المرتكبة بحق الإنسانية. وفي قضية بينوشيه التي أقيمت مؤخراً في المملكة المتحدة وإدانة الراهبات الروانديات في بلجيكا بالاشتراك في إبادة جماعية دليلٌ على أن الولاية القضائية العالمية الموجودة في هذه الصكوك قد بدأت تعامَلُ معاملةً جديةً جِداًّ.
1-27 صاحَبَ التغيُّرَ في القانون وفي القواعد القانونية، كما لوحِظَ، إنشاءُ سلسلةٍ عريضةٍ من المؤسسات الدولية الجديدة والمنظمات غير الحكومية المعنية بمراقبة حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي والعمل على تنفيذها في العالم أجمع – وكان من نتائج ذلك أن التوقعات الجديدة للسلوك مصحوبةٌ، بصورةٍ متزايدةٍ، بتوقعاتٍ جديدة لتدابير إصلاحية.
1-28 كذلك أصبح مفهوم الأمن البشري -بما في ذلك الاهتمام بحقوق الإنسان، ولكنه أوسع نطاقاً من ذلك -عنصراً متزايد الأهمية في القانون الدولي والعلاقات الدولية، وصار يوفر بصورة متزايدة إطاراً للتدابير الدولية. ومع أن المسألة ليست خالية من الجدل، أصبح  هناك الآن اعتراف متزايد بأن مفهوم الأمن يمتد ليشمل الناس كما يشمل الدول. ومن المؤكد أنه أصبح واضحاً أكثر فأكثر أن الأثر الإنساني للتدابير الدولية لا يمكن اعتباره أثراً جانبياًّ لتدابير أخرى، وإنما يجب أن يكون انشغالاً مركزياًّ لجميع المعنيين. وهناك اعتراف متزايد في العالم أجمع، سواءٌ أكان محبوباً على الصعيد العالمي أم لا، بأن حماية الأمن البشري، بما فيه حقوق الإنسان وكرامة الإنسان، يجب أن تكون واحداً من الأهداف الأساسية للمؤسسات الدولية الحديثة.
1-29 لدى النظر في التوقعات المتغيرة والسلوك المتغير على الصعيدين الوطني والدولي، يستحيل على المرء أن يتجاهل أثر العولمة والتكنولوجيا في هذا المقام. فالثورة الحاصلة في تكنولوجيا المعلومات جعلت الاتصالات العالمية فورية ومكَّنت من الوصول إلى المعلومات في العالم بأسره على نحو لم يسبق له مثيل. وكانت النتيجة ارتفاعاً هائلاً في معرفة الصراعات أينما حدثت، مقرونةً بصورٍ مرئية فورية على شاشة التلفزيون ووسائط الإعلام الأخرى للآلام التي يعانيها الناس، وغالباً ما تكون مؤثرة جداًّ. ففي أيلول/سبتمبر 2001 حَزِنَ العالم، عانى وحَزِنَ، مع الأمريكيين. وكذلك أصبح الناس في كل أنحاء العالم يرون في بيوتهم ومجالسهم صور القتل والصراع الحاصلين لا في العواصم الكبيرة فقط، وإنما أيضاً في أماكن نائية في مختلف أنحاء العالم. وفي عدد من الحالات كان القلق الشعبي على ما يراه الناس يمارس ضغطاً سياسياًّ على الحكومات لكي تستجيب. وخَلَقَ لكثير من هذه الحكومات تكلفةً سياسية داخلية لعدم التصرف واللامبالاة.
 
فرص جديدة لتدابير مشتركة
 
1-30 يوجد بُعْدٌ سياقي هام جداًّ للمناقشة الراهنة حول التدخل لأغراض الحماية البشرية، ذلك هو الفرصة الجديدة والقدرة الجديدة على القيام بعمل مشترك الناتجتان عن انتهاء الحرب الباردة. فربما حدث لأول مرة منذ إنشاء الأمم المتحدة أنْ وُجدت الآن إمكانيةٌ حقيقية لقيام مجلس الأمن بأداء الدور المتصور له في ميثاق الأمم المتحدة. وعلى الرغم من بعض النكسات الملحوظة تبيَّنَ خلال التسعينات أن قدرة مجلس الأمن على القيام بعمل مشترك قدرة حقيقية، إذ أذن المجلس بنحو 40 عملية حفظ سلام أو إنفاذ سلام خلال العقد المنصرم.
1-31 تلازَمَ مع هذه المعرفة بأحوال العالم والرؤية الواضحة الجديدة للآلام التي يعانيها الناس أثرُ العولمة في تكثيف الترابـُط الاقتصادي بين الدول. فالعولمة أدت إلى توثيق العلاقات على جميع المستويات وإلى إيجاد اتجاه واضح نحو التعاون المتعدد الأطراف. وفي سياق المناقشة الجارية حول قضية التدخل لأغراض الحماية البشرية من الواضح أن حقائق العولمة والترابُط المتنامي كانا في الغالب عاملين هامَّين في حفز الدول المتجاورة وغيرها على الانخراط في عمل إيجابي لتشجيع الوقاية وكذلك في الدعوة إلى التدخل في أوضاع يبدو أنها آخذة في التسارع إلى أن ينفلت زمامها.
 
الآثار على سيادة الدُّوَل
 
1-32 في عالمٍ خطِرٍ متميِّزٍ  بالتفاوت الغالب في القوة والموارد تكون السيادة لكثير من الدول أفضل خط دفاع -ويبدو أحياناً أنها خط الدفاع الوحيد. ولكن السادة أكثر من مجرد مبدأ وظيفي في العلاقات الدولية. فهي لكثير من الدول والشعوب اعترافٌ أيضاً بتساويها مع الدول والشعوب الأخرى في القدر والكرامة، وحماية لهوياتها الفريدة وحريتها الوطنية، وتوكيدٌ لحقِّها في تشكيل وتقرير مصيرها. واعترافاً بهذا أنشئ مبدأ المساواة في السيادة بين جميع الدول باعتباره حجر الزاوية لميثاق الأمم المتحدة (المادة 2-1 ).
1-33 غير أنه لكل الأسباب السالفة الذكر، تغيرت الشروط التي يمكن بموجبها ممارسة السيادة -وممارسة التدخل -تغيُّراً هائلاً منذ عام 1945. فقد ظهرت دول جديدة عديدة وما زالت تحاول توطيد هويتها. ووضع القانون الدولي المتطوِّرُ كثيراً من القيود على ما تستطيع الدول أن تفعله، وذلك ليس في ميدان حقوق الإنسان فقط. فمفهومُ الأمن البشري الناشئ أَوْجَدَ مَطالبَ وتوقعاتٍ إضافيةً فيما يتعلق بالطريقة التي تعامل بها الدولة شعبَها. ويقوم كثير من الجهات الفاعلة الجديدة بأداء أدوارٍ دولية كانت من قبلُ، إلى حدٍّ ما، من اختصاص الدول حصراً.
1-34 مع كل ما تقدمَ ذكرُهُ، ما زالت للسيادة أهميتها. فثمة حجة قوية تقول إن الدول الفعالة والشرعية ما زالت أفضل طريقة لضمان قسمة الفوائد الناتجة عن تدويل التجارة والاستثمار والتكنولوجيا والاتصالات بالعدل والإنصاف. ومن الواضح أن الدول التي تستطيع الاعتماد على أحلاف إقليمية قوية وسلام داخلي ومجتمع مدني قوي ومستقل تبدو في أفضل وضع ممكن للاستفادة من العولمة. ويُرَجَّحُ أيضاً أن تكون أكثر الدول احتراماً لحقوق الإنسان. ومن ناحية الأمن، يرجَّحُ أن يكون النظام الدولي المتماسك المسالم أقرب إلى أن يتحقق بتعاون دول فعالة واثقة من مكانها في العالم منه في بيئة كيانات دولٍ هشة أو منهارة أو مفتتة وبوجه العموم تسودها الفوضى.
1-35 إن الدفاع عن سيادة الدول، حتى من قِبَلِ أقوى مؤيديها، لا يشمل أي ادعاءٍ بأن للدولة قوةً غير محدودة لأن تفعل ما تشاء بشعبها. ولم تسمع اللجنة أي ادعاءٍ من هذا القبيل في أي مرحلة من مراحل المشاورات التي أجريناها في كل أنحاء العالم. بل من المعترف به أن السيادة تنطوي على مسؤولية مزدوجة: في الخارج، احترام سيادة الدول الأخرى؛ وفي الداخل، احترام كرامة كل الناس الموجودين داخل الدولة وحقوقهم الأساسية. وفي الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وفي ممارسة الأمم المتحدة، وفي ممارسة الدول نفسها، تُفهَمُ السيادةُ الآن أنها النهوضُ بهذه المسؤولية المزدوجة. والسيادة كمسؤولية أصبحت الحد الأدنى لمضمون المواطَنَةِ الدولية الصالحة.
1-36 هذا الفهم الحديث لمعنى السيادة ذو أهمية بالغة لنهج اللجنة في معالجة مسألة التدخل لأغراض الحماية البشرية، وبوجهٍ خاصٍّ في تطوير موضوعنا الرئيسي، وهو “مسؤولية الحماية”، الذي نعرضه ونوضحه في الفصل التالي من هذا التقرير.
 
معنى التدخل
نطاق المفهوم
 
1-37 يُستمَدُّ جانبٌ من الجدل الدائر حول “التدخل” من الاتساع المحتمل للأنشطة التي يمكن أن يغطيها هذا المصطلح، حتى التدخُّلَ العسكريَّ بما في ذلك هذا التدخل نفسه. فبعض الناس يعتبرون أي ممارسة للضغط على دولة ما تدخلاً ويضمِّنون في هذا الضغط برامج الدعم المشروط التي تقدمها المؤسسات المالية الدولية التي يشعر المستفيدون منها بأنه لا يوجد لديهم خيار إلا القبول. ويعتبر آخرون أي تداخل في الشؤون الداخلية لأية دولة دون موافقتها تدخُّلاً -بما في ذلك تقديم مساعدة الإغاثة في حالات الطوارئ لجزء من سكان الدولة يكون في حاجة. ويرى غيرهم أن كل أنواع التدابير القسرية المباشرة، لا مجرد العمل العسكري، وإنما الجزاءات السياسية والاقتصادية الفعلية أو المهدَّد بها، والحصار والتهديدات الدبلوماسية والعسكرية والمحاكمات الجنائية الدولية جميعها مشمولة بهذا المصطلح. ومع ذلك هناك قوم آخرون يحصرون هذا المصطلح في استخدام القوة العسكرية.
1-38 نوع التدخل الذي نحن معنيون به في هذا التقرير هو التدابير المتخذة ضد دولة أو زعمائها، دون رضى هذه الدولة أو هؤلاء الزعماء، لأغراضٍ يُدَّعى بأنها إنسانية أو حمائية. وأكثر أشكال هذا التدخل إثارةً للجدل التدخل العسكري، ويركز جانب كبير من تقريرنا بالضرورة على هذا النوع من التدخل. ولكننا كذلك معنيون جداً ببدائل العمل العسكري، بما فيها جميع أشكال التدابير الوقائية وتدابير التدخل القسري -الجزاءات والمحاكمات الجنائية -التي تُقَصِّرُ عن بلوغ التدخل العسكري. هذه التدابير القسرية نناقشها في هذا التقرير في سياقين: التهديد باستخدامها كتدبير وقائي يهدف إلى تفادي ظهور حاجة إلى تدخل عسكري (الفصل الثالث)؛ واستخدامها الفعلي كرد فعل لكن كبديلٍ عن القوة العسكرية (الفصل الرابع).
التدخل “الإنساني”؟
 
1-39 تعترف اللجنة بالتاريخ الطويل لمصطلح “التدخل الإنساني” واستمرار استخدامه ورواجه على نطاق واسع، وكذلك فائدته الوصفية في تركيز الانتباه بوضوح على فئة واحدة معينة من التدخلات -وهي بالذات التدخلات التي يُقامُ بها للغرض المحدد المتمثل في حماية المعرضين للخطر أو مساعدتهم. ولكننا اتخذنا قراراً مدروساً بعدم استخدام هذا المصطلح وفضَّلنا أن نشير إما إلى “التدخل” أو -حسب الاقتضاء – “التدخل العسكري” لأغراض الحماية البشرية.
1-40 استجبنا في هذا الصدد لما أعربت عنه الوكالات الإنسانية والمنظمات الإنسانية والعاملون في المجال الإنساني من معارضة قوية جداًّ لإضفاء أي طابع عسكري على كلمة “إنساني”: فأياًّ كانت دوافع القائمين بهذا التدخل يحرِّمُ قطاع الغوث الإنساني والمساعدة الإنسانية الاستيلاء على هذه الكلمة واستخدامها لوصف أي نوع من أنواع العمل العسكري. واستجابت اللجنة أيضاً لقول بعض الدوائر السياسية إن استخدام كلمةٍ مقبولةٍ أصالةً ككلمة “إنساني” في هذا السياق يميل إلى المساس بالمسألة التي هي قيد النظر ذاتها -أي مسألة ما إذا كان يمكن حقاًّ الدفاع عن التدخل.
1-41 نحن رأينا من البداية أن ثمة فضيلة في أي شيء يشجع الناس على إعادة النظر، بعيونٍ جديدة، على المسائل الحقيقية التي تنطوي عليها مناقشة السيادة والتدخل. وإلى جانب قضية مصطلح “التدخل الإنساني” هناك تغيُّرٌ لغويٌّ أكبر وما يرتبط به من إعادة صياغة مفاهيم القضايا رأت اللجنة أن من المفيد أن تأخذ به. إلى هذا المفهوم -مفهوم “مسؤولية الحماية” -نتحول في الفصل التالي.
 
 
2 – نهج جديد: “مسؤولية الحماية”
 
2-1 ما زال ملايين البشر تحت رحمة الحروب الأهلية وأعمال التمرد وقمع الدولة وانهيار الدولة. هذه حقيقة ناصعة لا يمكن إنكارها، وهي تقع في صميم جميع القضايا التي تعمل اللجنة جاهدة على حلها. والمسألة الهامة هنا ليست جعل العالم آمناً للدول الكبرى ولا هي الدَّوْسُ على الحقوق السيادية للدول الصغيرة، وإنما هي توفير الحماية العملية للأشخاص العاديين الذين تتعرض أرواحهم للخطر لأن دولهم غير راغبة أو غير قادرة على حمايتهم.
2-2 ولكنْ كُلُّ هذا قَوْلُهُ أسهلُ من فِعْلِهِ. فقد كان عدد حالات الفشل مساوياً لعدد حالات النجاح إن لم يكن أكبر منه. وما زالــت هناك مخاوف مستمرة من الاعتراف رسمياًّ بـ “الحق في التدخُّل”. فإذا ما أريدَ قبول التدخل لأغراض الحماية البشرية، بما في ذلك إمكانية العمل العسكري، يبقى من الضروري أن يضع المجتمع الدولي معايير لتوجيه ممارسات الدول والمنظمات الحكومية الدولية، تكون متسقة وذات مصداقية وقابلة للإنفاذ. فقد أعطت الخبرة التي تعلمناها من الصومال ورواندا وسريبرينيتسا وكوسوفو وما بعدها، وكذلك تدخلات  وحالات عدم تدخل في عدد من الأماكن الأخرى،  إشارات واضحة إلى أن أدوات العلاقات الدولية وأجهزتها والتفكير فيها كلها تحتاج الآن إلى إعادة تقدير شاملة لتلبية الاحتياجات المنظورة للقرن الحادي والعشرين.
2-3 أي نهجٍ جديدٍ للتدخل بداعي الحماية البشرية يحتاج إلى تلبية أربعة أهداف أساسية على الأقل، وهي:
• وضع قواعد وإجراءات ومعايير واضحة لتقرير ما إذا كان ينبغي التدخل، ومتى وكيف يكون؛
• إثبات شرعية التدخل العسكري عندما يكون ضرورياًّ وبعد أن تفشل جميعُ النُّهُجِ الأخرى؛
• ضمان تنفيذ التدخل العسكري، عند حدوثه، للأغراض المقترحة فقط، وأن يكون فعاّلاً ومدفوعاً بالحرص الصحيح على تقليل ما ينتج عنه من خسائر بشرية وأضرار بالمؤسسات إلى الحد الأدنى؛
• المساعدة على إزالة أسباب الصراع، حيثما أمكن، مع زيادة احتمالات إقامة سلام دائم وقابل للاستدامة؛
2-4 سنبين في الفصول اللاحقة من هذا التقرير بالتفصيل كيف يمكن تحقيق هذه الأهداف. ولكن ثمة قضية أوَّلية هامة ينبغي أن نتناولها قبل ذلك. من المهم ألاّ تصبح اللغة –والمفاهيم التي تكمن وراء اختيار الكلمات –عائقاً عن معالجة القضايا الحقيقية التي ينطوي عليها الأمر. فكما وجدت اللجنة أن عبارة “التدخل الإنساني” لم تساعد على المضي قُدُماً في المناقشة، كذلك نعتقد بأن لغة المناقشات السابقة، المؤيدة لإعطاء دولةٍ “الحق في التدخل” في أراضي دولة أخرى والمعارضة له، لغة عفّى عليها الزمن ولم تعد مفيدة. ونفضل أن نتكلم لا عن “الحق في التدخل”، وإنما عن “مسؤولية الحماية”.
2-5 ومن الطبيعي أن تغيير لغة المناقشة، وإن كان يمكن أن يزيح حاجزاً من أمام العمل الفعاّل، لا يغير القضايا الجوهرية التي ينبغي تناوُلُها. فما زال يلزم مناقشة جميع المسائل الأدبية والقانونية والسياسية والتنفيذية -حول الحاجة والسلطة والإرادة والقدرة، على التوالي – وهي مسائل كانت صعبة وحاسمة. لكنْ إذا كان الناس مستعدين للنظر في جميع هذه القضايا من المنظور الجديد الذي نقترحه، فربما يسهِّل ذلك، إلى حدٍّ كبيرٍ، التوصُّلَ إلى إجاباتٍ متفقٍ عليها.
2-6 نحاول فيما تبقىّ من هذا الفصل أن نقدم قضية مبدئية، وهي قضية عملية وسياسية كذلك، لصياغة مفهوم قضية التدخُّل من حيث هي مسؤوليةُ حمايةٍ. ولَبِناتُ البناء التي ستتألَّفُ منها الحجة هي أوَّلاً، المبادئ المتأصلة في مفهوم السيادة؛ ثانياً، أثر مبادئ حقوق الإنسان والأمن البشري، وهي مبادئ ناشئة، وممارسات الدول والمنظمات الحكومية الدولية الآخذة في التغيُّر.
 
معنى السيادة
قاعدة عدم التدخُّل
 
2-7 أصبحت السيادة تعني، في مفهوم وستفاليا، الهوية القانونية للدولة في القانون الدولي. وهو مفهوم يوفِّرُ النظام والاستقرار وقابلية التنبُّؤ في العلاقات الدولية لأن الدول ذات السيادة تُعتبَرُ متساوية بغض النظر عن اختلاف حجمها وثروتها. و مبدأ المساواة في السيادة بين الدول مكرس في المادة 2-1 من ميثاق الأمم المتحدة. وتعني السيادة، في الداخل، القدرة على اتخاذ قرارات نافذة فيما يتعلق بالسكان والموارد الموجودين في إقليم الدولة. غير أن سلطة الدولة بوجه العموم لا تعتبر مطلقة، وإنما هي مقيدة ومنظمة داخلياًّ بترتيبات تَقاسُم السلطة الدستورية.
2-8 ثمة شرطٌ لسيادة أي دولة بعينها، وهو التزامٌ مقابِلٌ باحترام سيادة كل دولة أخرى: وقاعدة عدم التدخل مكرسة في المادة 2-7 من ميثاق الأمم المتحدة. ويمكِّنُ القانون الدولي الدولة ذات السيادة من ممارسة ولاية حصرية وكاملة داخل حدودها الإقليمية. وعلى الدول الأخرى واجب مقابل بعدم التدخُّل في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة. وإذا انتُهِكَ ذلك الواجب فللدولة المُعتدى عليها حق آخر في الدفاع عن سلامتها الإقليمية واستقلالها السياسي. وفي عهد إزالة الاستعمار وجدت المساواة في السيادة بين الدول وقاعدة عدم التدخل المتصلة بها توكيداً راسخاً من الدول المستقلة حديثاً.
2-9 وفي الوقت نفسه، بينما كان التدخُّل لأغراض الحماية البشرية نادراً جداًّ، عكست ممارسات الدول إباّن الحرب الباردة عدم رغبة كثير من الدول في التنازل عن استخدام التدخُّل لأغراض سياسية وأغراضٍ أخرى باعتباره أداةً للسياسة العامة. فتدخَّلَ زعماءُ جانبَي الفجوة الأيديولوجية لتأييد زعماء أصدقاء لهم ضد السكان المحليين، بينما أيَّدوا أيضاً حركات متمردة وقضايا معارضة أخرى في دول يعارضونها أيديولوجياًّ. ولم يكن أي واحدٍ مستعداًّ، بداهةً، لنبذ استخدام القوة في بلد آخر لإنقاذ مواطنيه الذين وجدوا أنفسهم محجوزين أو مهددين في ذلك البلد.
2-10 وُسِّعَ أحياناً نطاقُ حق الدفاع عن النفس الراسخ والمعترف به عالمياًّ، والوارد في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، ليشمل الحق في شن غارات عقابية على بلدان مجاورة أبدت عدم استعدادها لوقف استخدام إقليمها منصة انطلاق لغارات مسلحة أو هجمات إرهابية عبر الحدود. لكنَّ الأمثلة العديدة على التدخُّل في الممارسات الفعلية للدول طيلة القرن العشرين لم تُؤّدِّ، رغم كل ما قيل، إلى التخلي عن قاعدة عدم التدخُّل.
 
المبدأ المنظِّم لمنظومة الأمم المتحدة
 
2-11 كانت عضوية الأمم المتحدة الرمز النهائي لاستقلال الدولة وسيادتها، وبذلك كانت بمثابة خاتَم القبول في مجتمع الأمم. وأصبحت الأمم المتحدة أيضاً المحفل الدولي الرئيسي للعمل التعاوني في السعي المشترك لتحقيق الأهداف الثلاثة: بناء الدولة، وبناء الأمة، والتنمية الاقتصادية. ولذلك كانت الأمم المتحدة الساحة الرئيسية لحماية سيادة الدولة بغيرَةٍ، لا للتنازل عنها من دون اكتراث.
2-12 الأمم المتحدة منظمة مكرسة لصيانة السلم والأمن الدوليين على أساس حماية السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي والسيادة الوطنية للدول الأعضاء فيها. غير أن الغالبية العظمى من الصراعات المسلحة هذه الأيام صراعات داخلية، لا صراعات بين الدول. وعلاوة على ذلك، ارتفع عدد المدنيين الذين يُقتَلونَ فيها من نسبة واحد من عشرة في بداية القرن العشرين إلى نسبة 9 من عشرة في نهاية القرن. وهذا وَضَعَ المنظمةَ أمام صعوبةٍ كبيرة: كيف توفِّقُ بين المبادئ الأساسية لسيادة الدول الأعضاء والولاية الأساسية المرافقة لها -ولاية المحافظة على السلم والأمن الدوليين (“أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب”) -وبين المهمة التي لا تقل عنهما إلزاما -مهمة تعزيز مصالح الشعوب ورفاهيتها في تلك الدول (“نحن شعوب الأمم المتحدة”).
2-13 ناقش الأمين العام هذه المعضلة بلغة مفاهيمية تعتمد مفهومين للسيادة، أحدهما منوط بالدولة والثاني منوط بالشعب وبالأفراد. ويعكس نهجُهُ هذا الالتزام المتزايد باستمرار في كل أنحاء العالم بالحكم الديمقراطي (حكم الشعب من قبل الشعب لمصلحة الشعب) ومزيد من الحريات الشعبية.  ولا ينبغي أن يُنظّرَ إلى المفهوم الثاني للسيادة، الذي أشار إليه، على أنه نوعٌ من التحدّي للمفهوم التقليدي لسيادة الدولة. وإنما هو طريقة للقول إن مفهوم سيادة الدولة التقليدي يجب أن يتمكَّنَ دونَ عناءٍ من احتضان هدف زيادة تمكين الشعب أفراداً وجماعات وزيادة حريته.
 
السيادة كمسؤولية
 
2-14 إن ميثاق الأمم المتحدة نفسه مثال على الالتزام الدولي الذي قبلته الدول الأعضاء بمحض اختيارها. فالمجتمعُ الدوليُّ، بمنحه عضوية الأمم المتحدة للدولة الموقعة على الميثاق، من جهة،  يرحب بها كعضو مسؤول في مجتمع الأمم. ومن جهة أخرى، تقبل الدولةُ نفسُها، بتوقيعها الميثاق، مسؤولياتِ العضوية النابعة من ذلك التوقيع. وليس هناك أي نقل لسيادة الدولة أو انتقاص منها. ولكن الأمر ينطوي على إعادة تصنيف ضرورية: من السيادة كسيطرة إلى السيادة كمسؤولية في الوظائف الداخلية وفي الواجبات الخارجية على حدٍّ سواء.
2-15 التفكير في السيادة كمسؤولية، بطريقة أصبحت تلقى اعترافاً متزايداً في ممارسات الدول، له أهميةٌ ذاتُ ثلاثِ شُعَب. فهو، أَوَّلاً، ينطوي على كون سلطات الدولة مسؤولة عنوظائف حماية سلامة مواطنيها وأرواحهم وتعزيز رفاهيتهم. ثانياً، يوحي بأن السلطات السياسية الوطنية مسؤولة أمام مواطنيها داخلياًّ وأمام المجتمع الدولي من خلال الأمم المتحدة. ثالثاً، يعني أن موظفي الدولة مسؤولون عن أعمالهم أي أنهم مُساءَلونَ عما يقومون به من فِعْلٍ أو تَرْكٍ. ويعزِّزُ قضيةَ التفكير بالسيادة بهذه المعاني الأثرُ المتزايدُ باستمرار للقواعد الدولية لحقوق الإنسان، والأثر المتزايد لمفهوم الأمن البشري في الخطاب الدولي.
 
حقوق الإنسان والأمن البشري والممارسة الناشئة
حقوق الإنسان
 
2-16 كان اعتماد معايير جديدة لسلوك الدول في حماية حقوق الإنسان الدولية وتعزيزِها واحداً من أكبر المنجزات التي تحققت في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية. فقد ألزَمَتْ المادة 1-3 من الميثاق الذي تأسست به الأمم المتحدة في عام 1945 المنظمة بـ ” تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا والتشجيع على ذلك إطلاقا بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء.” ويضم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) القانون الأدبي والتوافُق السياسي والتركيب القانوني لحقوق الإنسان. وتُكَذِّبُ بساطةُ لغة الإعلان مدى صِدق الإيمان الذي يقوم على أساسه. وكان جماله ينبوع الإلهام لقارئيه على مرِّ العقود؛ وتشكِّلُ أحكامُهُ  مفرداتِ الشكوى. ويؤيد العهدان المعتمدان في عام 1966، بشأن الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويعلنان أن قاعدة حقوق الإنسان مبدأ أساسي من مبادئ العلاقات الدولية ويضيفان قوةً وتحديداً للإعلان العالمي.
2-17 لقد رسم العهدان مع الإعلان العالمي خريطة البرنامج الدولي لحقوق الإنسان، ووضعا المقياس العام لسلوك الدول، وألهما الأحكام التي سُنَّتْ في كثير من القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، وأدَّيا إلى إيجاد هياكل أساسية وطنية طويلة الأجل لحماية حقوق الإنسان وتعزيزها. إنهما مَعْلَمانِ هاماّن على طريق التحوُّل من ثقافة العنف إلى ثقافة السلم الأكثر تَـنَوُّراً.
2-18 إن ما حدث بالتدريج هو تحوُّلٌ من ثقافة الحصانة السيادية إلى ثقافة المساءلة الوطنية والدولية. فالمنظمات الدولية والناشطون في المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية يستخدمون القواعد والصكوك الدولية لحقوق الإنسان باعتبارها المرجع الملموس الذي يحكمون بموجبه على سلوك الدول. وقد حققت الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، فيما بينها، أوجه نجاح كثيرة. فقد تحسَّنَت القوانين الوطنية والصكوك الدولية، وأُطلِقَ سَراحُ عدد من السجناء السياسيين، ودُفِعَت تعويضاتٌ لبعض ضحايا إساءة المعاملة. وكان أحدث أوجه التقدُّم في حقوق الإنسان الذي تحقق على الصعيد الدولي هو زيادة تطوير القانون الإنساني الدولي باعتماد اتفاقية أوتاوا المعنية بالألغام الأرضية، مثلاً، فقد أخضعت الحسابات العسكرية للاهتمامات الإنسانية بشأن سلاحٍ لا يستطيع التمييز بين الجندي والطفل، وباعتماد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في روما.
2-19 كما أصبحت فحوى قانون حقوق الإنسان أقرب إلى تحقيق مفهوم العدالة العالمية -عدالة بلا حدود -كذلك  كان شأن العملية. فلم يقف الحد عند إنشاء محاكم جنائية دولية جديدة لأغراض خاصة، لتنظر في الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية في البلقان ورواندا وسيراليون؛ ولا عند كون محكمة جنائية دولية توشك أن تُنشَأ لمحاكمة مرتكبي هذه الجرائم أينما ارتُكِبَت وحينما ترتكب في المستقبل؛ وإنما،كما لاحظنا من قبل في الفصل الأول، نرى أن الولاية العالمية القائمة بموجب عدد من المعاهدات، مثل اتفاقيات جنيف، والتي تمكِّنُ أي دولة طرف من محاكمة المتهمين بالجرائم المعنية، بدأت الآن تُطَبَّقُ بجدية.
2-20 وإن أهمية هذه التطورات في إنشاء معايير جديدة للسلوك، ووسائل جديدة لتطبيق هذه المعايير، ليست موضع طعن. إلا أن مفتاح المراعاة الفعالة لحقوق الإنسان  يظل، كما كان دائماً، القانون الوطني والممارسة الوطنية: وأقوى دفاع عن سيادة القانون يتم على الجبهة هو الدفاع الذي توفره النظم القانونية للدول ذات السيادة، وهذه يجب أن تكون مستقلة وذات كفاءة مهنية ومزودة بالموارد الصحيحة. فعندما تعجز نُظُمُ القضاء الوطنية أو تتقاعس عن المحاكمة على الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية -عند ذلك فقط -ينبغي أن تأخذ الولاية العالمية والخيارات الدولية الأخرى مجراها.
الأمن البشري
 
2-21 أصبح معنى الأمن ونطاقه أوسع  بكثير مما كانا عليه عندما وُقِّعَ ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945. فالأمن البشري يعني أمن الناس -سلامتهم البدنية ورفاههم الاقتصادي والاجتماعي، واحترام كرامتهم وقدرهم كبشرٍ، وحماية حقوق الإنسان المملوكة لهم وحرياتهم الأساسية. وآذَنَ الاعترافُ المتزايدُ في العالم أجمع بأن مفاهيم الأمن يجب أن تشمل الناس كما تشمل الدول بتحوُّلٍ في التفكير الدولي خلال العقد المنصرم. وكان الأمين العام كوفي عنان هو نفسه الذي وضع قضية الأمن البشري في صميم المناقشة الجارية، حين أوضح في خطابه الذي ألقاه في الدورة الرابعة والخمسين للجمعية العامة نِيَّـتَهُ في “تناوُل احتمالات الأمن البشري والتدخُّل في القرن القادم.”
2-22 من المؤكد أن هذه اللجنة تقبل بحقيقة أن قضايا السيادة والتدخُّل ليست مسائل تؤثر في حقوق الدول وامتيازاتها فقط، وإنما تؤثر تأثيراً بالغاً أيضاً في الأفراد وتعنيهم  بطرقٍ أساسيةٍ. ومن فضائل الإعراب عن القضية الرئيسية في هذه المناقشة باعتبارها “مسؤولية الحماية” أنه يركِّز الانتباه حيث يجب أن يكون تركيزُهُ على أشدِّه، على الحاجات الإنسانية للذين يلتمسون الحماية أو المساعدة. وبهذا التركيز، يتحول التوكيد في المناقشة الأمنية من الأمن الإقليمي والأمن من خلال التسلُّح إلى الأمن من خلال التنمية البشرية والحصول على الأمن الغذائي والوظيفي والبيئي. ويمكن أن تتعرض العناصر الأساسية للأمن البشري -أمن الناس من الأخطار التي تهدد حياتهم وصحتهم ومعيشتهم وسلامتهم الشخصية وكرامتهم الإنسانية -للخطر من جراء عدوان خارجي ولكن أيضاً من جراء عوامل داخل البلد، بما فيها قوات “الأمن”. وربما كان التصاق الحكومة التصاقاً متيناً جداًّ بمفهوم “الأمن الوطني” واحداً من الأسباب التي جعلت حكومات كثيرة تنفق على حماية مواطنيها من هجوم عسكري خارجي غير واضح المعالم ما تنفقه على حمايتهم من أعداءٍ موجودين بينهم دائماً -أعداء الصحة الجيدة والأخطار الحقيقية الأخرى التي تهدد الأمن البشري كل يوم.
2-23 والمفهوم التقليدي الضيق للأمن يترك جانباً أبسط دواعي القلق الأمنية التي تساور الناس العاديين في حياتهم اليومية وأكثرها شَرعيَّةً. وهو يحوِّلُ كذلك مقادير هائلة من الثروة الوطنية والموارد البشرية إلى الأسلحة والقوات المسلحة، بينما تفشل البلدان في حماية مواطنيها من أخطار مزمنة تعصف بأمنهم، مثل الجوع، والمرض، وعدم كفاية المأوى، والجريمة، والبطالة، والصراع الاجتماعي، والأخطار البيئية. وعندما يُستخدَم الاغتصاب أداةً للحرب والتطهير العرقي، وعندما يُقتَلُ آلافُ الناس بفعل الفيضانات الناتجة عن انجراف تربة الريف، وعندما يُقتَلُ المواطنون على أيدي قواتهم الأمنية، لا يكفي أن نفكر في الأمن بمعنى الأمن الوطني والأمن الإقليمي فقط. فمفهوم الأمن البشري يمكن أن يشمل،  بل يشملُ، هذه الظروف المتنوعة.
 
الممارسة الناشئة
 
2-24 اشتعلت مناقشة التدخل العسكري لأغراض الحماية البشرية في المجتمع الدولي أساساً بسبب الفجوة الحرجة بين الحاجات والمحنة التي يشعر بها الناس في العالم الحقيقي، ويُرى أنهم يشعرون بها، من جهة، وبين الصكوك والطرائق المقنَّـنَة لإدارة النظام العالمي، من جهة أخرى. كانت ثمة فجوةٌ موازية، لا تقل أهمية عن تلك، بين أفضل الممارسات المقنَّـنَة للسلوك الدولي كما صيغت في ميثاق الأمم المتحدة والممارسة الفعلية للدول كما تطوَّرَت على مدى السنين الست والخمسين التي انقضت منذ توقيع الميثاق. وبينما لا يوجد حتى الآن أساس متين بما فيه الكفاية للادعاء بظهور مبدأٍ جديد في القانون الدولي العرفي، توحي الممارسة المتنامية للدول والمنظمات الإقليمية، وكذلك سوابق مجلس الأمن، بأن ثمة مبدأً مرشداً آخذاً في النشوء -ترى اللجنة أنه يمكن أن يوصف بحقٍّ بأنه “مسؤولية الحماية”.
2-25 المبدأ الناشئ الذي هو قيد البحث هو أنه يمكن تأييد التدخل لأغراض الحماية البشرية، بما في ذلك التدخل العسكري في حالات الشدة البالغة، عندما يحدث أذىً كبيرٌ للمدنيين أو يُخشى أن يحدث قريباً، وتكون الدولة المعنية غير قادرة أو غير راغبة في وضع حدٍّ لهذا الأذى، أو تكون هي نفسها التي تلحقه بالناس. وقد كان مجلس الأمن نفسه مستعداًّ بصورة متزايدة في السنوات الأخيرة للتصرف على هذا الأساس، وأكثر ما اتضح ذلك في الصومال، حين عُرِّفَ ما هو أساساً وضعٌ داخلي بأنه يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين يبرِّرُ القيام بتدابير قسرية بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وهذا هو أيضاً الأساس الذي بني عليه تبرير دول الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا لتدخلها في ليبريا وسيراليون، وعليه أيضاً تم تبرير تدخل أعضاء حلف شمال الأطلسي في كوسوفو دون إذنٍ من مجلس الأمن.
2-26 وكذلك يؤيد مفهوم وجود مبدأٍ مرشدٍ ناشئٍ مؤيِّدٍ للتدخل العسكري لأغراض الحماية البشرية عددٌ كبيرٌ متنوع من المصادر القانونية -بما فيها مصادر موجودة مستقلة عن أي واجبات أو مسؤوليات أو سلطة مستمدة من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ومن بين هذه الأسس القانونية المبادئ الأساسية للقانون الطبيعي؛ والإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية الإبادة الجماعية؛ واتفاقيات جنيف المعنية بالقانون الإنساني الدولي والبروتوكولان الإضافيان التابعان لها؛ والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية؛ وعدد من الاتفاقات والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والحماية البشرية. وسوف نعالج بعض تداعيات هذه التطورات وعواقبها مرة ثانية في الفصل السادس من هذا التقرير كجزءٍ من دراسة مسألة السلطة.
2-27 بناءً على قراءتنا لممارسات الدول، وسوابق مجلس الأمن، والقواعد الثابتة، والمبادئ المرشدة الناشئة، والقانون الدولي العرفي المتطور، تعتقد اللجنة بأن انحياز الميثاق القوي ضد التدخل العسكري لا ينبغي اعتباره انحيازاً مطلقاً حين يلزم اتخاذ تدابير حاسمة بدعوى الحماية البشرية. وتتوقف درجة الشرعية التي تُعطى للتدخل في العادة على الإجابات على أسئلة مثل الغرض، والوسائل، واستنفاد السبل الأخرى للانتصاف من المظالم، وتَناسُبِ الردِّ مع الاستفزاز الذي استدعاه، والجهة التي تمنح الإذن بالتدخل. هذه كلها أسئلة تتكرر: فالحقيقة هي، لأغراضنا الراهنة، أن هناك قدراً كبيراً من القانون والممارسة يؤيد فكرة أن مجتمع الدول العريض يتحمل مسؤولية، أياًّ كان شكل ممارسة هذه المسؤولية على الوجه الصحيح، عن حماية مواطنيه وكذلك مواطني الدول الأخرى.
 
تغيير مصطلحات المناقشة
 
2-28 اللغة التقليدية في مناقشة السيادة والتدخل -من حيث “حق التدخل الإنساني” أو “الحق في التدخل” -لا تساعدنا في ثلاث نواحٍ على الأقل. إنها بالضرورة تركِّز الانتباه على ادِّعاءات الدول التي يُحتمل أن تتدخَّل وحقوقِها وامتيازاتها أكثر مما تركِّزُهُ على الحاجات الملِحَّة لمن يُحتمَلُ أن يستفيدوا من هذا الإجراء. ثانياً، بالتركيز تركيزاً ضيقاً على فعل التدخُّل لا تأخذ اللغة التقليدية في الحسبان بالقدر الكافي الحاجة إلى مجهود وقائي سابق أو إلى مساعدة متابعة لاحقة، وكلاهما كان مصيُرُه الإهمالَ في كثير من الأحيان في الواقع العملي. ثالثاً، وإن كان لا ينبغي المبالغة في التشديد على هذه النقطة، تعمل اللغة المألوفة فعلاً على تغليب التدخل على السيادة منذ بداية المناقشة: فهي تُغَلِّبُ جانب التدخُّل حتى قبل أن تبدأ المناقشة، لأنها تميل إلى وصم المخالفة بأنها لا إنسانية وإلى نزع شرعيتها.
2-29 ترى اللجنةُ أن مناقشةَ التدخل لأغراض الحماية البشرية يجب أن تركِّزَ لا على “الحق في التدخُّل”، وإنما على “مسؤولية الحماية”. والتغيُّرُ المقترَحُ في المصطلح هو تغيُّرٌ في المنظور أيضاً، إذ يعكس المفاهيم المتأصِّلًةَ في اللغة التقليدية ويضيف مفاهيم أخرى:
• أوَّلاً، مسؤولية الحماية تنطوي على تقويم القضايا من وجهة نظر الذين يلتمسون التأييد أو يحتاجون إليه، لا من وجهة نظر الذين يفكرون في التدخُّل. ومُصطَلَحُنا المفضَّلُ يعيد توجيه المصباح الدولي إلى حيث ينبغي أن يكون: على واجب حماية المجتمعات من القتل الجماعي والنساء من الاغتصاب والأطفال من المجاعة.
        • ثانياً، تعترف مسؤولية الحماية بأن المسؤولية الأولى في هذا الصدد تقع على كاهل الدولة المعنية، وأنه إذا كانت الدولة غير قادرة أو غير راغبة في النهوض بهذه المسؤولية، أو كانت هي نفسها المرتكبة للجريمة، عندئذٍ فقط تصبح مسؤولية المجتمع الدولي أن يتصرَّفَ نيابةً عنها. وفي حالات كثيرة، تسعى الدولة إلى إعفاء نفسها من المسؤولية إعفاءً تاماًّ ومن المشاركة الإيجابية مع ممثلي المجتمع الدولي. وهكذا تكون “مسؤولية الحماية” مفهومَ وَصْلٍ يربط جانبي الفجوة بين التدخل والسيادة أكثر منها أي شيء آخر؛ ولغة “الحق في التدخل أو واجب التدخل” من أساسها أكثر ميلاً إلى المجابهة.
         • ثالثاً، تعني مسؤولية الحماية لا مجرد “مسؤولية رد الفعل” وإنما “مسؤولية الوقاية” وكذلك “مسؤولية إعادة البناء”. فهي توجِّهُ أنظارنا إلى تكاليف العمل ونتائجه مقابل اللاعمل، وتعطينا صلات مفاهيمية وقانونية وعملية بين المساعدة والتدخل والإعمار.
2-30 تعتقد اللجنة أن مسؤولية الحماية تقع أوَّلاً وقبل كل شيء على عاتق الدولة التي يتأثر مواطنوها تأثُّراًُ مباشراً. وهذه الحقيقة تعكس لا القانون الدولي ونظام الدول الحديث فحسب، وإنما الحقائق العملية أيضاً من حيث مَنْ هو الأفضلُ مكاناً لأداء عملٍ يُحدِثُ فرقاً إيجابياًّ. فالسلطةُ المحلية أفضل مكاناً لاتخاذ إجراء يمنع المشكلة من أن تتحول إلى صراع محتمل. وعندما تظهر المشاكل تكون السلطة المحلية أفضل مكاناً لفهم هذه المشاكل ومعالجتها. وعندما تدعو الحاجة إلى حلول يكون مواطنو الدولة المعنية هم أصحاب المصلحة الكبرى وهم أكبر المستفيدين من هذه الحلول، في ضمان مساءلة السلطات المحلية مساءلة تامة عن فِعلِها أو تَركِها في معالجة هذه المشاكل، وفي المساعدة على ضمان عدم السماح لمشاكل الماضي بأن تتكرر.
2-31 بينما تقع المسؤولية الأولى عن الحماية على عاتق الدولة التي يتأثر سكانها تأثُّراً مباشراً بالمشكلة، تقع مسؤولية ثانوية أيضاً على عاتق مجتمع الدول الأوسع. هذه المسؤولية الثانوية التي يُلجَأُ إليها عند الحاجة يبدأ مفعولها عندما يتضح أن دولة معيَّنة غير راغبة أو غير قادرة على النهوض بمسؤولية الحماية؛ أو أنها هي المرتكبة الفعلية للجرائم أو الفظائع؛ أو حين يكون سكان مقيمون خارج دولة معيَّنة واقعين تحت تهديد مباشر من أعمالٍ تجري في تلك الدولة. وهذه المسؤولية تتطلب أيضاً في بعض الظروف أن يقوم مجتمع الدول الأوسع بتأييد السكان المعرضين للخطر أو لتهديد خطير.
2-32 فحوى مسؤولية الحماية هي توفير الحماية التي تقوم بأَوَدِ الحياة ومساعدة السكان المعرضين للخطر. وتتألَّفُ هذه المسؤولية من ثلاثة عناصر أساسية متكاملة: ليست فقط مسؤولية القيام برد ِّ فِعلٍ لكارثةٍ إنسانية وقعت فِعلاً أو يُخشى وقوعُها، وإنما هي أيضاً مسؤولية منعها من الوقوع، ومسؤولية إعادة البناء بعد وقوعها. وسوف نتناول كل عنصر من هذه العناصر بالتفصيل في فصول هذا التقرير. لكن من المهم أن نؤكد من البداية أن العمل المؤيِّدً لمسؤولية الحماية ينطوي بالضرورة على سلسلة عريضة من الأعمال والاستجابات المساعِدَة المتنوعة تنوُّعاً واسعاً ويستدعي أداءها. ويمكن أن تضم هذه الأعمال تدابيرَ طويلةَ الأجل وأخرى قصيرةَ الأجل للمساعدة على الحيلولة دون حُدوثِ أوضاع تهدد الأمن البشري أو دون تَفاقُمِها، أو انتشارِها، أو بقائها؛ ودعمَ إعادة البناء للمساعدة على عدم تكرارها؛ وفي الحالات البالغة الشدة على الأقل -تدخُّلاً عسكرياًّ لحماية المدنيين المعرضين للخطر من الأذى.
2-33 إنَّ تغيير مصطلحات المناقشة من “الحق في التدخل” إلى “مسؤولية الحماية” يساعد على تحويل محور المناقشة إلى حيث ينبغي أن يكون -إلى حاجات مَن يحتاجون إلى المساعدة أو يلتمسونها. إلا أن هذه، وإن كانت خطورة هامة وضرورية، فهي في حدِّ ذاتها، كما سبق أن اعترفنا، لا تحل المسائل الصعبة المتصلة بالظروف التي ينبغي فيها ممارسة مسؤولية الحماية -وهي مسائل الشرعية، والسلطة، والفعالية التنفيذية، والإرادة السياسية. هذه المسائل سنتناولها بالتفصيل في الفصول اللاحقة. وبينما لا تدَّعي اللجنة أنها تحاول حل هذه المسائل الصعبة كُلِّها الآن أو في أي وقت في المستقبل، نأمل أن يولِّدَ نَهْجُنا تفكيراً إبداعياًّ في الطرق المؤدية إلى تحقيق عملٍ فعّالٍ ومناسبٍ واستدامةِ هذا العمل.
 
3 – مسؤولية الوقاية

الالتزام بالوقاية
 
3-1 تعتقد هذه اللجنة اعتقاداً جازماً بأن مسؤولية الحماية تنطوي على مسؤولية مصاحبة لها هي مسؤولية الوقاية. ونعتقد بأن الوقت قد حان منذ زمن بعيد لأن يفعل المجتمع الدولي أكثر لسد الفجوة الواقعة بين دعم الوقاية بالكلام الطنان والالتزام الملموس. وإن الحاجة إلى فعل شيء أكبر بكثير للوقاية واستنفاد خيارات الوقاية قبل الاندفاع إلى احتضان التدخل كانت باستمرار مواضيع تتكرر في مشاوراتنا التي أجريت في العالم بأسره وهي مواضيع نؤيدها من قلوبنا.
3-2 إن منع وقوع صراع فتاك وغيره من أشكال الكوارث التي هي من صنع الإنسان، شأنه في ذلك شأن كل جوانب مسؤولية الحماية، هو أوَّلاً وأخيراً مسؤولية الدول ذات السيادة والمجتمعات والمؤسسات الموجودة فيها. وإن الالتزام الوطني الصارم بضمان المعاملة العادلة والفرص العادلة لكل المواطنين يوفر أساساً صلباً لمنع وقوع صراع أو الوقاية منه. وإن الجهود الرامية إلى ضمان المساءلة وحسن الإدارة، وحماية حقوق الإنسان، وتشجيع التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وضمان توزيع الموارد توزيعاً عادلاً تشير كلها إلى الوسائل اللازمة.
3-3 لكنَّ منع وقوع الصراع ليس مجرد شأن وطني أو محلي. فعدم المنع يمكن أن تكون له عواقب وتكاليف دولية باهظة. وعلاوة على ذلك، لكي ينجح المنع يلزم في الغالب دعم قوي من المجتمع الدولي، وربما يكون هذا الدعم في كثير من الأحيان لا غنىً عنه. وهذا الدعم يمكن أن يتخذ أشكالاً كثيرة. ربما يأتي في شكل مساعدة للتنمية أو لمجهودات أخرى تساعد على معالجة الأسباب الجذرية للصراع المحتمل؛ أو مجهودات لتقديم الدعم لمبادرات محلية للنهوض بحسن الإدارة، أو حقوق الإنسان، أو سيادة القانون؛ أو في شكل مساعٍ حميدة، وجهود وساطة، وجهودٍ أخرى لتشجيع الحوار أو التوفيق. وفي بعض الحالات ربما يأخذ الدعم الدولي للمجهودات الوقائية شكل إغراءات؛ وفي حالات أخرى ربما ينطوي على استعداد لفرض تدابير قاسية أو حتى عقابية.
3-4 إن الجهود الدولية الأوسع نطاقاً، حين تبيِّنُ الالتزام بمساعدة الجهود المحلية على معالجة الأسباب الجذرية للمشاكل والأسباب التي تفجرها بصورة مباشرة، تزداد مصداقية -على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي. وهذه المصداقية ذات أهمية خاصة حين يجب أن يمضي العمل الدولي إلى أبعد من الوقاية فيصل إلى الرد، وبخاصة عندما ينطوي هذا الرد بالضرورة على تدابير قسرية، وفي النهاية على استخدام القوة المسلحة. والمقصد الأساسي للجهود الوقائية هو بالطبع تقليل، ويؤمل أن يكون إزالة، الحاجة إلى التدخل كلياًّ. لكن هذه الجهود، حتى في الحالات التي لم تنجح فيها في منع وقوع صراع أو كارثة، إنما هي شرط مسبق لازم لكي تكون الاستجابة فعالة.  
3-5 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن في عام 2000 قرارات تعترف بالدور الحيوي لكل أجزاء منظومة الأمم المتحدة في منع وقوع صراعات وتعهدا بزيادة فعالية هذا الدور. فقد تحدث تقرير الفريق المعني بعمليات الأمم المتحدة للسلام كثيراً عن أهمية الحاجة إلى تجنب هذه العمليات باتخاذ تدابير وقائية أكثر فعالية. وكان تقرير الأمين العام الهام عن منع نشوب الصراعات المسلحة، المقدم في عام 2001، دعوة أخرى حسنة الصياغة إلى بذل جهود مجددة للتعاون على المنع، وفيه توصيات كثيرة بعيدة المدى وبخاصة في معالجة المشاكل الهيكلية الضاربة جذورها في الأعماق، واللجنة تؤيدها كل التأييد.
3-6 استجابةً لهذه النداءات وغيرها على مر السنين أنشئت أو وُسِّعَتْ في التسعينات شبكةٌ واعدة من الآليات الدولية والحكومية وغير الحكومية لمنع نشوب الصراعات، تركز بوجه خاص على الصراعات التي تقع داخل الدولة. فأنشأت منظمة الوحدة الإفريقية، مثلاً، في عام 1993 آلية لمنع نشوب الصراعات وإدارتها وتسويتها، بدعمٍ من جهات مانحة خارجية. وطورت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عدداً من الآليات والممارسات الداخلية الابتكارية لمنع نشوب صراعات في أوروبا. ولا يقل عن ذلك أهمية الدور المتزايد الأهمية الذي تقوم به المنظمات غير الحكومية، لا سيما في سياق جهود الإنذار المبكر والمساعدة في جمع كلمة الرأي العام المحلي والأجنبي لدعم التدابير الوقائية.
3-7 لكن موارد الأمم المتحدة والموارد الأخرى المخصصة للوقاية بجميع أشكالها تظل ضئيلة بالمقارنة بالموارد التي تكرسها المنظمات الحكومية الدولية والدول ذاتها للاستعداد للحرب والقتال والتدخل القسري والمساعدة الإنسانية لضحايا الصراعات والكوارث، والإعمار في مرحلة ما بعد التدخل، وحفظ السلام. وفي كثير من الأحيان نرى الذين لديهم القدرة على العمل يفضلون المقامرة، ويراهنون أحياناً على أن الوضع سيحل نفسه بنفسه، أو أنه سيسخن دون أن يصل إلى حد الغليان، أو أن الصراع الناتج عنه أقل حدَّةً مما تنبأ به الناس، أو أن الصراع إذا نشب يمكن احتواؤه بسرعة. وكانت النتيجة، على حد قول لجنة كارنيجي المعنية بمنع نشوب الصراعات الفتاكة، أن المجتمع الدولي أنفق نحو 200 مليار دولار على إدارة الصراعات في سبعة تدخلات كبيرة في التسعينات (البوسنة والهرسك، والصومال، ورواندا، وهايتي، والخليج الفارسي، وكمبوديا، والسلفادور)، لكنْ كان بإمكانه أن يوفر 130 مليار دولار لو سلك نهجاً وقائياًّ أكثر فعالية.
3-8 تظل هناك فجوة بين الدعم الكلامي والمالي والسياسي للوقاية. ولم تكن أقل المشاكل هنا مشكلة المساعدة الإنمائية. فبينما اصبح المجتمع الدولي أكثر حنكة في استخدام المساعدة الإنمائية للعمل على منع نشوب الصراعات، حدث في السنوات الأخيرة انخفاض ملحوظ في المستوى الإجمالي لهذه المساعدة في العالم بأسره. وما زالت الديون التي تراكمت إبان الحرب الباردة تلقي أعباءَ سدادٍ هائلة على كثير من اقتصادات البلدان النامية المعسرة، مما يجعل الموارد الشحيحة أكثر شحَّةً، ويزيد تفاقم الفجوات بين الدخول في المجتمعات، ويحرم بلداناً كثيرةً من القدرة على استخدام مواردها هي نفسها لمنع نشوب الصراعات. كما أن السياسات التجارية التي يأخذ بها كثير من البلدان الصناعية الغنية، فَـتُضعِف أو تقيِّد جوراً إمكانيات الوصول إلى الأسواق، إلى جانب ما شهده كثير من البلدان النامية من تدهور شروط التبادل التجاري، لم تسهِّل على الإطلاق تخفيف أعباء الديون هذه، أو زيادة القدرة على تلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية لسكانها.
3-9 ينبغي، لمنع نشوب الصراع وما يتصل به من مصادر البؤس البشري، التي يعنى بها هذا التقرير، منعاً فعاّلاً، توفُّرُ ثلاثة شروط أساسية. أوَّلاً، ينبغي توفُّرُ المعرفة بهشاشة الوضع والمخاطر المرتبطة به -ما يسمى بـ “الإنذار المبكر”. ثانياً، ينبغي توفُّرُ فهم للتدابير السياسية المتاحة التي تستطيع أن تحدِثَ فرقاً -ما يسمى بـ “العُدَّةِ الوقائية”. ثالثاً، يجب، كما هو الأمر دائماً، توفُّرُ الإرادة لتطبيق هذه التدابير -مسألة “الإرادة السياسية”. سنقول شيئاً قليلاً عن الشرطين الأولين في هذا الفصل، وعن الشرط الثالث في الفصل الثامن. وليس التحليل الموسَّعُ لطرائق منع نشوب الصراعات محورَ تركيز هذه اللجنة: فهذا المجال غطته جهات أخرى كثيرة تغطية وافية. ولكن في سياق مسؤولية الحماية نرى أن تحسين منع نشوب الصراعات على جميع المستويات -مفاهيمياًّ واستراتيجياًّ وتنفيذياًّ -أمرٌ مُلِحٌّ وأساسيٌّ. وتشجيع بذل جهود أكثر جدية واستدامة لمعالجة الأسباب الجذرية للمشاكل التي تعرض السكان للخطورة، واستخدام تدابير منعٍ مباشرة أكثر فعالية، من الأهداف الرئيسية لجهود اللجنة.
 
الإنذار المبكر والتحليل
 
3-10 ربما بالغ المرء في مدى كون قلة الإنذار المبكر مشكلة خطيرة لدى الحكومات والمنظمات الحكومية الدولية هذه الأيام. والقلة في معظم الأحيان ليست في البيانات الأساسية وإنما في تحليلها وتحويلها إلى قرارات سياسية والإرادة لفعل شيء بشأنها. ففي أكثر الأحيان -والتقارير الأخيرة عن استجابة الأمم المتحدة للوضع في رواندا في عام 1994 تؤكد ذلك -تكون قلة الإنذار المبكر ذريعةً لا توضيحاً، والمشكلة ليست قلة  الإنذار وإنما هي مشكلة استجابة في الوقت المناسب.
3-11 بعد كل ما قيل، يلزم تكريس مزيد من الموارد الرسمية للإنذار المبكر والتحليل. فالتدابير الوقائية ترتكز على التنبؤ الدقيق وتنبع منه، غير أن التحليل الوقائي، إن وُجِدَ على الإطلاق، لا يأخذ في حسابه في كثير من الأحيان عوامل رئيسية ويغفل عن علامات إنذار رئيسية (ولذلك يضيِّع فرصاً لاتخاذ تدابير مبكرة)، أو يخطئ في قراءة المشكلة (مما يسفر عن استخدام الأدوات الخطأ). ثمة عدد من المشاكل المتميزة يضعف القدرات التحليلية على التنبؤ بصراعٍ عنيف: تعدد المتغيرات المرتبطة بالأسباب الجذرية للصراع وتعقيدات التفاعلات فيما بينها؛ ما يرتبط بذلك من عدم وجود نماذج موثوق بها للتنبؤ بالصراع؛ وببساطة، المشكلة الدائمة -مشكلة الحصول على معلومات دقيقة تقوم على أساسها التحليلات والتدابير.
3-12 حتى الآن كانت الإنذارات المبكرة بإمكانية نشوب صراعات فتاكة تتعلق بحالات فردية وغير منظمة. وتشترك في هذا المجهود سلسلة عريضة من الجهات الفاعلة، من بينها سفارات ووكالات استخبارات وقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام ومنظمات غير حكومية تعمل في مجالي الإغاثة والتنمية ومجموعات وطنية ودولية تعمل في مجال حقوق الإنسان ولجنة الصليب الأحمر الدولية ومجموعات دينية وأكاديميون ووسائط الإعلام. الجودة متباينة والتنسيق بين المجموعات كان حتى الآن بدائياًّ أو غير موجود. الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الإنمائية غير الحكومية لديها ميزة الوجود بين القواعد الشعبية الأساسية في البلدان ولكنها في الغالب تفتقر إلى الدراية الفنية والموارد البشرية، وبوجه خاص إلى الولاية اللازمة لتقديم معلومات دقيقة وموثوقة تشكل إنذاراً مبكراً.
3-13 حفز الاستياء من هذا الوضع على ظهور نوع جديد من المنظمات غير الحكومية، منظمات مكرسة حصراً للإنذار المبكر بقرب وقوع صراعات. وتقوم منظمات مثل مجموعة الأزمات الدولية برصد مناطق من العالم يبدو أن صراعاً يوشك أن يقع فيها وتقديم تقارير عنها؛ وتقوم بجهود نشطة في تنبيه الحكومات ووسائط الإعلام إذا اعتقدت أن ثمة حاجة ملحَّة إلى اتخاذ تدابير وقائية. وتعززُ عملَها قدراتُ الرصد وتقديم التقارير المتوفرة لدى منظمات حقوق الإنسان الدولية والوطنية مثل منظمة العفو الدولية (أمنستي إنترناشيونال) ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان، والاتحاد الدولي لحقوق الإنسان. فقد بذلت هذه المنظمات، التي كانت في الماضي تكرس معظم طاقاتها لتقديم تقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان ضد الأفراد والمجموعات، جهوداً واعية لتوسيع نطاق عملها ليشمل الإنذار المبكر بقرب وقوع صراعات يمكن أن تسفر عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو حتى إبادة جماعية. والنمو الباهر لمراكز حقوق الإنسان الأهلية هذه في فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة يوفر لهذه المجموعة من الجهات الفاعلة شبكة معلومات وشراكات متزايدة القوة. ولكن هذه المنظمات ما زالت بحاجة إلى الوقت لكي تتعلم كيف تنسق فيما بينها تنسيقاً أفضل وتعبئ أنصارها في مختلف أنحاء العالم وتعمل مع وسائط الإعلام وتحرك الحكومات.
3-14 كثيراً ما يتم تعيين مقر الأمم المتحدة باعتباره المكان المنطقي لتركيز جهود الإنذارات المبكرة. وبُذِلَت جهود على مدى أكثر من عقدين من الزمن لتحسين قدرات المنظمة العالمية على جمع المعلومات وتحليلها. ومن مظاهر القوة الرئيسية الولاية المنوطة بالأمين العام بموجب المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة لأن “ينبه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدولي.” وبعبارة أخرى، توجد لدى الأمانة العامة قدرة هائلة على تنبيه العالم إلى الصراعات الوشيكة الوقوع بصوت عالٍ أو بهدوء. لكن الجهود الرامية إلى تحسين قدرة المنظمة على تقديم الإنذار المبكر قصَّرت حتى الآن عن المطلوب وستظل القدرة على جمع المعلومات وتحليلها في المستقبل المنظور تعتمد على مصادر من خارج الأمم المتحدة.
3-15 تقرير الفريق المعني بعمليات الأمم المتحدة للسلام واحد من تقارير كثيرة تدعو إلى قيام الأمم المتحدة بدَورِ مركزٍ لتبادل المعلومات، وقد أشار إلى “الحاجة إلى المزيد من الفعالية في جمع وتقييم المعلومات في مقر الأمم المتحدة بما في ذلك وجود نظام معزز للإنذار المبكر من اندلاع الصراع يكفل اكتشاف وإدراك مـــدى الخطر والمخاطـــرة اللذين ينطوي عليهما اندلاع صراع ما أو عملية إبادة جماعية.” ويقدم ذلك التقرير أيضاً مقترحات مفصلة جداًّ لإنشاء قدرة على الإنذار المبكر في إطار الأمانة العامة للأمم المتحدة. واللجنة تؤيد هذه المقترحات تأييداً تاماًّ.
3-16 إن بذل جهود لإنشاء نظام إنذار مبكر أفضل بتسخير القدرات الحكومية الموجودة من قبلُ فكرةٌ جديرةٌ بالمتابعة، ولكن من الواجب أن نكون واقعيين بشأن مدى استعداد الدول للكشف عن المعلومات الذي يمكن أن يضر بشبكات الاستخبارات التابعة لها، وكذلك بشأن مدى إمكانية الاعتماد على هذه المعلومات. ولزيادة قدرة الأمين العام على تقديم معلومات أفضل توقيتاً وأكثر دقة لمجلس الأمن عن المناطق التي يُخشىَ وقوع صراع فيها ينبغي إنشاء وحدة خاصة يمكنها تلقي معلومات حساسة من الدول الأعضاء وغيرها وتحليل هذه المعلومات، وتكون مسؤولة أمام الأمين العام مباشرة. ويجب أن يكون موظفو الوحدة عدداً صغيراً من الأخصائيين المدربين على منع وقوع الصراعات.
3-17 من المهم جداًّ كذلك زيادة إشراك الجهات الفاعلة الإقليمية التي لديها معرفة وثيقة بالأوضاع المحلية. وإن كانت الصراعات الناشئة تميل إلى أن تشترك في عدد من الخصائص فإن كلاًّ منها ينفرد أيضاً ببعض الوجوه. والجهات الفاعلة الإقليمية تكون عادةً أفضل موقعاً لفهم الدينميات المحلية وإن كانت لديها هي الأخرى بعض أوجه القصور -ليس أقلها أنها في الغالب ليست غير ذات مصلحة في نتائج الصراعات الفتاكة. وتوصي اللجنة بتوفير مزيد من الموارد لدعم المبادرات الإقليمية ودون الإقليمية لمنع نشوب صراعات وكذلك بناء قدرات تهدف إلى تحسين فعالية المنظمات الإقليمية ودون الإقليمية في عمليات حفظ السلام وإنفاذ السلام والتدخل.
 
الجهود الرامية إلى منع الأسباب الجذرية للصراع
 
3-18 أكد مجلس الأمن نفسه -وهو الهيئة المنوطة بها المسؤولية الرئيسية عن حفظ السلام والأمن الدوليين -أهمية الاستجابة للأسباب الجذرية للصراع والحاجة إلى اتباع استراتيجيات وقائية فعالة طويلة الأجل. وهذا القلق مرسَّخٌ بقوة في ميثاق الأمم المتحدة، إذ تعترف المادة 55 منه صراحةً بأن إيجاد حلول للمشاكل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية وما يتصل بها من مشاكل، وتعزيز التعاون الدولي في أمور الثقافة والتعليم، والاحترام العالمي لحقوق الإنسان كلها ضرورية لـ ” تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سلمية ودية بين الأمم.” وبذلك يوفر الميثاق الأساس الذي يقام عليه نهج شامل طويل الأجل لمنع وقوع صراعات على أساس مفهوم موسَّع للسلام والأمن.
3-19 رغم أنه لا يوجد اتفاق عالمي على الأسباب المحددة للصراع الفتاك من الشائع التفريق بين الأسباب الكامنة أو “الجذرية” والأسباب المثيرة أو “المباشرة” للصراع المسلح. وثمة اعتراف متزايد وواسع الانتشار بأنه لا يمكن فهم الصراعات المسلحة دون الإشارة إلى الأسباب “الجذرية” كالفقر والقمع السياسي والتفاوت في توزيع الموارد. فقد قال الأمين العام في تقريره الأخير إن “كل خطوة تُتخذ نحو تخفيف حدة الفقر وتحقيق نمو اقتصادي عريض القاعدة إنما هي خطوة نحو منع وقوع صراع.” ولذلك يجب أن تعمل استراتيجيات منع الصراعات “على تعزيز حقوق الإنسان وحماية حقوق الأقليات وإنشاء ترتيبات سياسية تُمثَّلُ فيها جميع الفئات.” ويعني تجاهُلُ هذه العوامل الكامنة معالجة أعراض الصراع الفتاك دون أسبابه.
3-20 أفضل طريقة لتنفيذ تدابير منع وقوع الصراع، ككل أشكال المساعدة الأخرى، في جميع الأحوال تتم عندما تكون هذه التدابير قائمة على معرفةٍ وفهمٍ مفصلين وعلى أكبر قدر ممكن من التعاون بين المساعِدين والمساعَدين. ومن المهم لدى تحليل أسباب الصراع وتطبيق تدابير وقائية أن تكون البلدان المتقدمة النمو على معرفة بالحواجز الثقافية التي ربما تعوق تفسير المعلومات الواردة من بلدان ومناطق أخرى، وأن تتغلب على أي تردُّدٍ في تفحُّص سياساتها هي نفسها بدقة بحثاً عن أدلة على أي أثر سلبي يمكن أن تتركه هذه السياسات على البلدان النامية.
3-21 منع الأسباب الجذرية له أبعاد كثيرة. فقد يعني معالجة الحاجات وأوجه النقص السياسية، وهذا قد ينطوي على إقامة الديمقراطية وبناء القدرات؛ وتقاسم السلطات الدستورية وتناوُب السلطة وترتيبات إعادة التوزيع؛ وتدابير بناء الثقة بين المجتمعات والمجموعات المختلفة؛ وتأييد حرية الصحافة وسيادة القانون؛ وتعزيز المجتمع المدني؛ وأنواع أخرى من المبادرات المشابهة التي تجد لها مكاناً مناسباً في إطار الأمن البشري.
3-22 ربما يعني منع الأسباب الجذرية أيضاً معالجة مسألة الحرمان الاقتصادي وقلة الفرص الاقتصادية. وقد تنطوي هذه المعالجة على تقديم مساعدة إنمائية وتعاون إنمائي لمعالجة أوجه الإجحاف في توزيع الموارد أو الفرص؛ وتشجيع النمو الاقتصادي والفرص الاقتصادية؛ وتحسين شروط التبادل التجاري والسماح بزيادة إمكانيات وصول منتجات الاقتصادات النامية إلى الأسواق الخارجية؛ وتشجيع الإصلاح الاقتصادي والهيكلي الضروري؛ وتقديم المساعدة الفنية لتقوية الصكوك والمؤسسات التنظيمية.
3-23 ربما يعني منعُ الأسباب الجذرية أيضاً تعزيز الحماية القانونية والمؤسسات القانونية. وهذا قد ينطوي على دعم الجهود الرامية إلى تعزيز سيادة القانون؛ وحماية سلامة الجهاز القضائي واستقلاله؛ وتشجيع الأمانة والمساءلة في إنفاذ القوانين؛ وتعزيز حماية الفئات الضعيفة وبخاصة الأقليات؛ وتقديم الدعم للمؤسسات والمنظمات المحلية التي تعمل على إعمال حقوق الإنسان.
3-24 وربما يعني منع الأسباب الجذرية أيضاً المبادرة إلى إدخال الإصلاحات القطاعية اللازمة في الجهاز العسكري وفي الدوائر الأمنية الأخرى للدولة. وقد ينطوي هذا على تحسين تعليم وتدريب القوات العسكرية؛ وإعادة دمج المحاربين القدماء في المجتمع؛ وتقوية آليات السيطرة المدنية، بما في ذلك مراقبة الميزانية؛ وتشجيع الجهود الرامية إلى ضمان محاسبة الدوائر الأمنية على أعمالها وضمان كونها تعمل في إطار القانون؛ وتشجيع الانضمام إلى نظم مراقبة التسلح ونزع السلاح وعدم الانتشار، بما في ذلك مراقبة نقل الأسلحة الخفيفة والأسلحة الصغيرة ومنع الألغام الأرضية.
الجهود الرامية إلى منع الأسباب المباشرة
 
3-25 تضم “عُدَّةُ” منع الأسباب المباشرة أساساً نفس تقسيمات منع الأسباب الجذرية الآنفة الذكر -العنصر السياسي/الدبلوماسي، والاقتصادي، والقانوني، والعسكري -ولكن الأدوات مختلفة، وفي هذا انعكاس لقِصَرِ الوقت المتاح لعمل فَـرْقٍ. وقد تأخذ هذه الأدوات في كل حالة شكل مساعدة مباشرة، أو إغراءات إيجابية، أو -في الحالات الأكثر صعوبة -الشكل السلبي المتمثل بالتهديد بـ “عقوبات”. ولكن الصفة الأساسية والمشتركة بين كل هذه الإجراءات والتدابير هي أنها تهدف –حتى حين تتردد الدولة المعنية في التعاون -إلى جعل التدابير القسرية المباشرة ضد الدولة المعنية غير لازمة على الإطلاق.
3-26 ربما تشمل التدابير السياسية والدبلوماسية لمنع الأسباب المباشرة اشتراك الأمين العام للأمم المتحدة مباشرة، وكذلك بعثات تقصّي الحقائق، ومجموعات الأصدقاء، ولجان الشخصيات البارزة، والحوار والوساطة من خلال المساعي الحميدة، والنداءات الدولية، والحوار غير الرسمي بواسطة “المسار الثاني”، وحلقات عمل لحل المشاكل. وفي الطرف السلبي من الميزان، ربما يشمل التدخل السياسي والدبلوماسي المباشر التهديد بفرض جزاءات سياسية، وعزل دبلوماسي، وتعليق العضوية في المنظمات، وفرض قيود على سفر أشخاص مستهدفين وأصولهم ، “تسمية أشخاص والتشهير بهم” وأعمال أخرى من هذا القبيل، أو تنفيذ هذه التدابير فعلاً.
3-27 وربما تشمل التدابير الاقتصادية لمنع الأسباب المباشرة هنا أيضاً إغراءات إيجابية وأخرى سلبية. وقد تشمل الإغراءات الإيجابية وعوداً بتمويل أو استثمار جديد أو وعداً بمعاملة الدولة وفقاً لشروط تبادل تجاري أكثر رعايةً. ويجب التمييز بين برامج المساعدة الإنمائية والإنسانية العادية من جهة، وبين البرامج المنفذة كبرامج وقائية أو برامج لبناء السلام استجابةً لمشاكل كان يمكن أن تؤدي إلى نشوب أو تكرار وقوع صراع يستخدم فيه العنف، من جهة أخرى. ويلزم هنا بذل عناية خاصة لضمان كون هذه المساعدة تساعد على منع القضايا المتنازع فيها أو تخفيف حدتها، لا أن تزيدها سوءاً. وقد تكون الجهود الاقتصادية الرامية إلى منع الأسباب المباشرة أيضاً ذات طبيعة قسرية، تشمل التهديد بجزاءات تجارية ومالية؛ وسحب الاستثمارات؛ والتهديد بسحب الدعم المقدم من صندوق النقد الدولي أو البنك الدول أو سحبه فعلاً؛ وتقليص المعونة وأشكال المساعدة الأخرى.
3-28 يمكن أيضاً استخدام طائفة من تدابير المنع المباشرة الأكثر قانونية في طابعها. وقد تشمل هذه التدابير، من جهة، عروضاً بالوساطة أو التحكيم أو ربما القضاء -وإن كانت هذه الخيارات في الصراعات الداخلية ربما تكون غير متوفرة أو غير مقبولة بسهولة لدى كل الأطراف. وثمة تدبير آخر ربما كان من المفيد النظر فيه، وهو نشر مراقبين لمراقبة التقيُّد بمعايير حقوق الإنسان والمساعدة على طمأنة المجتمعات أو المجموعات التي تشعر بأنها تتعرض لخطورة.
3-29 أصبح التهديد بطلب أو تطبيق جزاءات قانونية دولية في السنوات الأخيرة سلاحاً جديداً كبيراً في الترسانة الوقائية الدولية. ففي المقام الأول من شأن إنشاء محاكم متخصصة للنظر في جرائم الحرب المرتكبة في صراعات معينة -ليوغوسلافيا السابقة ورواندا ومؤخراً، سيراليون -يركِّز أذهان الأشخاص الذين يحتمل أن يرتكبوا جرائم بحق الإنسانية على مخاطر العقوبات الدولية التي يمكن أن يقعوا تحت طائلتها.
3-30 ثانياً، سيعني إنشاء المحكمة الجنائية الدولية -عندما تصدق 60 دولة على نظامها الأساسي الموقَّع في عام 1998 -أن ثمة ولايةً قضائيةً جديدةً على سلسلة عريضة من الجرائم الثابتة بحق الإنسانية وجرائم الحرب، التي يرد وصف بعضها في النظام الأساسي بتفصيل أكثر مما هو وارد في الصكوك الموجودة الآن، كفئات العنف الجنسي التي تشكل جرائم بحق الإنسانية، وبعضها جديد كحظر تجنيد الأطفال. وينبغي الترحيب بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية أيضاً كتدبير لتجنب الاتهامات بالمعايير المزدوجة، أو “عدالة المنتصر”، التي توجَّهُ أحياناً إلى المحاكم المتخصصة المشار إليها أعلاه.
3-31 علاوة على هذه المحاكم الدولية، الراهنة والمخطط إنشاؤها، تنشئ اتفاقيات جنيف وبروتوكولاها الإضافيان (وكذلك اتفاقية مناهضة التعذيب) ولاية عالمية على الجرائم المذكورة فيها. وهذا يعني أنه يمكن لأية دولة طرفٍ فيها أن تقدم للمحاكمة أي شخص متهم بهذه الجرائم. وعلى أي حال، تعتبر الولاية القضائية العالمية موجودة بموجب القانون الدولي العرفي على الإبادة الجماعية والجرائم المرتكبة بحق الإنسانية، وقد سنَّ عدد من البلدان تشريعات تعطي محاكمها ولايةً على هذه القضايا. ومع أن هذه الأحكام كانت في الماضي تلاقي الإهمال عادة أكثر من التطبيق، تشير محاكمة الراهبات الروانديات في محكمة بلجيكية في عام 2001 وإدانتهن بتهمة التواطؤ في الإبادة الجماعية في رواندا إلى أن الولاية القضائية العالمية الواردة في هذه الصكوك بدأت تُحمَلُ محملاً بالغ الجدية. وحدث تطوُّرٌ قانونيٌّ هامٌّ آخر بقرار مجلس اللوردات البريطاني في الفترة 1998-1999 في قضية تسليم الجنرال بينوشيه، الذي قطع شوطاً كبيراً نحو إلغاء الحصانة السيادية لقادة الحكومات في الجرائم التي يرتكبونها بحق الإنسانية أثناء وجودهم في الحكم.
3-32 أما نطاق التدابير الوقائية المباشرة ذات الطابع العسكري فأكثر محدودية، ولكن من المهم مع ذلك أن نذكُرَها. ومن هذه التدابير الاستطلاع المقابل، أو على وجه الخصوص الانتشار الوقائي للقوات بالتراضي، وأوضح مثال لذلك حتى الآن هو قوة الأمم المتحدةللانتشار الوقائي في مقدونيا، وهو مثال ناجح. وفي الحالات البالغة الشدة قد تشمل التدابير الوقائية المباشرة التهديد باستخدام القوة.
3-33 والانتقال في كل حالة من الإغراءات الرامية إلى الوقاية إلى تدابير وقائية أكثر اقتحاماً وقسراً، كالتهديد بجزاءات اقتصادية أو تدابير عسكرية، انتقالٌ هامٌّ ولا ينبغي أن يُستَخَفَّ به. فقد تُسفِر هذه التدابير عن ممارسة مستويات عالية جداًّ من الضغط السياسي والاقتصادي -إن لم يكن العسكري في الحالات البالغة الشدة -وإلى هذا الحد سوف يتطلب مستوىً عالياً نسبياًّ من الالتزام السياسي من جانب الجهات الفاعلة الخارجية. ومن المرجح أكثر من ذلك أن يولِّد استخدام التهديدات والتدابير القسرية الأخرى مقاومة سياسية من جانب الدولة المستهدفة أكبر مما تولده الوقاية القائمة على الإغراءات الإيجابية. ومع ذلك، يمكن أن يكون التهديد بجهود وقائية مباشرة هاماًّ في إزالة الحاجة إلى اللجوء فعلاً إلى تدابير قسرية، بما فيها استخدام القوة.
3-34 من المشاكل الأكثر وضوحاً التي تثيرها الاستراتيجية الوقائية بكاملها أن بعض الدول أصبحت أكثر تردُّداً في قبول أي تدابيرَ وقائية مؤيَّدةٍ دولياًّ على الإطلاق -حتى وإن كانت من أليَنِ الأنواع وأكثرها دعماً. وهي تخشى من أن يسفر أي “تدويل” للمشكلة إلى مزيد من “التداخل” الخارجي ويبدأ السير على طريق منحدر انزلاقي نحو التدخُّل. وثمة جوابان للرد على هذا الخوف. أولهما أن يكون راسمو السياسة الدولية حساسين له: يعترفون بأن كثيراً من التدابير الوقائية هي بطبيعتها قسرية واقتحامية، ويعترفون صراحةً بذلك، ويميزون تمييزاً واضحاً بين الجزرة والعصا، مع الحرص دائماً في البداية على تصميم تدابير تكون غير اقتحامية وحساسة للامتيازات الوطنية. أما الجواب الثاني فهو مُوَجَّهٌ إلى الدول نفسها: الدول التي ترغب في مقاومة الجهود الخارجية للمساعدة قد تزيد، بفعلها هذا، خطورة الإغراء بتدخُّلٍ خارجيٍّ أكبر، وفرض تدابير أكثر قسراً، وفي الحالات البالغة الشدة -تدخُّلٍ عسكريٍّ خارجي. ولا ينبغي النظر في التدخُّل إلا عندما تفشل الوقاية -وأفضل طريقة لتجنُّب التدخُّل هي ضمان عدم فشلها.
3-35 ثمة صعوبة أخرى يمكن أن تنشأ بسبب التدابير الوقائية المطبقة خارجياًّ والمؤيَّدَةِ دولياًّ، وهي أن الزعماء السياسيين الذين يواجهون عصياناً أو عنفاً انفصالياًّ يخشون في كثير من الحالات أن يعطوا زخماً إضافياًّ أو “شرعية” للذين يسببون لهم المشاكل. وينبغي فهم هذه المخاوف وتقديرها وإجراء تقييم دقيق دائماً لخطورة أن تؤدي الجهود القائمة على حسن نية إلى زيادة الوضع سوءاً. ومن المهم جداًّ في هذا الصدد أن يعترف الذين يودون المساعدة من الخارج اعترافاً تاماًّ بالسيادة والسلامة الإقليمية للبلدان المعنية ويحترموهما، ويقصروا جهودهم على إيجاد حلول في حدود هذه المعالم. ونحن نكرر هذه الحُجَّةَ ثانيةً في الفصل الخامس لدى مناقشة متابعة التدخُّل العسكري، وهي أن الهدف الإجمالي ليس تغيير الترتيبات الدستورية أو تقويض السيادة وإنما حمايتهما.
3-36 يتوقف منعُ نشوبِ الصراع منعاً فعاّلاً على جهات فاعلة مختلفة تعمل معاً في وَحدةٍ استراتيجية. فالدول، والأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، والمؤسسات المالية الدولية، والمنظمات الإقليمية، والمنظمات غير الحكومية، والجماعات الدينية، والعاملون في قطاع الأعمال التجارية، ووسائط الإعلام، والعاملون في القطاعات العلمي والمهني والتعليمي، كل منهم له دور يؤديه. وفي النهاية تتوقف القدرة على ممارسة الدبلوماسية الوقائية على قدرة المجتمع الدولي على تنسيق مبادرات متعددة الأطراف وتعيين تقسيماتٍ منطقيةً للعمل. وذكر “التنسيق” في العادة يضع على العيون غشاوة، ولكن المسألة مثار قلقٍ دائم. فعدد لجان التنسيق واجتماعات التنسيق كبير ولكنها لا تحسِّنُ التنسيق بالضرورة. فمن الواضح في كثير من الأحيان أن تكون للدول والمنظمات غير الدول مصالح وبرامج متباينة؛ وفي المناطق المعرضة لصراعٍ فاجعٍ حيث الجهات الفاعلة الخارجية لها مصالح هامة (وأكثر من بضعة مواضيع منافَسة في العادة) يمكن أن يكون تنسيق التدابير الوقائية غايةً في الصعوبة. وهذا يعطي ذخيرة سهلة للجهات الأهلية الفاعلة لاستغلال الانقسامات الحاصلة بين الجهات الفاعلة الخارجية. وعندما تجتمع هذه الحقيقة مع الحاجة إلى التنسيق وتقسيم العمل بين الوكالات والتحلي بالمرونة في ترتيب التدابير الوقائية على جدول زمني، تصبح إمكانيات تحقيق التماسك صعوبة مستعصية على الحل.
3-37 من المهم أن تكون لدينا استراتيجية تنفيذية، من النوع الذي اقترحته مؤسسة كارنيجي وغيرها، للجهود الوقائية المباشرة. ومن المستصوب أن يكون ثمة جهة فاعلة رائدة تدير عملية الوقاية التي تقوم بها جماعات فاعلة متعددة، وتجنب إمكانية تسليم مقاليد الوقاية إلى لجنة بكل ما ينطوي عليه ذلك من عدم الاتساق الاستراتيجي.  ومن المهم أن نتمكن من تضمين المبادرات الدبلوماسية مشاريع إنمائية سريعة الأثر. وسيكون من المستصوب جداًّ إتاحة مجمَّعٍ من أموال التنمية غير المقيَّدة لاستخدامها من قبل طرفٍ ثالثٍ بعد إتاحة مهلةٍ قصيرةٍ جداًّ -وهذه قدرة غير متوفرة حالياًّ في إطار الأمم المتحدة، وكانت منذ زمن بعيد حجرَ عثرةٍ كبيراً يعوق قدرة الوسطاء على “تحلية القِدْر” للطرفين المتنازعين ولاتخاذ تدابير ولو بدائية لبناء الثقة.
3-38 لوسائط الإعلام دور هام جداًّ تؤديه في منع وقوع الصراع، على وجه الخصوص في تنبيه راسمي السياسة -والرأي العام الذي يؤثر فيهم -للعواقب الفاجعة التي غالباً ما تنجم عن عدم اتخاذ أي تدابير. وتميل القصص الأكثر مباشرة والأكثر فظاعة إلى احتلال مقام الأولوية، خاطر البشرية المترتبة عليها، وحث أصحاب القرار على اتخاذ تدابير مناسبة.
3-39 يجب دمج منع وقوع الصراع بسياساتٍ وخططٍ وبرامجَ على الصُّعُد الثلاثة، الوطني والإقليمي والدولي. ويجب أن يُطلَبَ من الدول الأعضاء أن تقدم إلى الأمين العام تقارير وتستكملها بالمستجدات حول القدرات والإمكانيات والممارسات الراهنة المصممة لمنع وقوع صراعات -على الصعيد الوطني وكذلك، كمساهمةٍ في الجهود العالمية لمنع وقوع صراعات. وينبغي أيضاً أن تساهم المنظمات الإقليمية ودون الإقليمية بخبرتها وخططها في هذا المجهود العالمي -مما يجعل الأمم المتحدة مستودعاً لأدوات واستراتيجيات أفضل الممارسات. ويتطلب المنع الفعال لوقوع الصراعات، على وجه الخصوص، تجميع أبعاد جهود التنمية وزارات الخارجية والمالية والدفاع لمنع وقوع الصراع في حزمة واحدة. وينبغي أن يبدأ المانحون والمستفيدون على حدٍّ سواء في ترتيب نهجهم إزاء منع وقوع الصراع بطريقة تضمن التماسك واستمرار الجهد والأثر الحقيقي.
3-40 تعتقد اللجنة اعتقاداً قوياًّ بأن من الضروري جداًّ استثمار مزيد من الموارد والطاقة والكفاءة والالتزام في منع وقوع الصراع. وقد لُفِتَ الانتباه مراراً وتكراراً إلى ضرورة بذل جهود أكثر فعالية للمنع -كان آخرها من قِبَلِ الأمين العام في تقريره الأخير إلى الجمعية العامة ومجلس الأمن الذي لقي ترحيباً حاراًّ وكان موضوع مناقشة مستفيضة -ومع ذلك ما زال الالتزام الملموس بالمنع ضعيفاً. وإن الانتقال من القول إلى الفعل يعني وجود مزيدٍ من الاستعداد لدى المجتمعات المحلية والوطنية لاتخاذ الخطوات اللازمة لتفادي وقوع صراع، فضلاً عن وجودِ مزيدٍ من الاستعداد لدى الجهات الفاعلة الخارجية لضمان ألاّ تؤدي أعمالها إلى زيادة الوضع سوءاً. ويعني أيضاً بذل جهود أنشط على الصعيدين الإقليمي ودون الإقليمي لمنع وقوع صراع وتقديم مزيدٍ من الدعم لهذه الجهود على جميع المستويات. إنه يعني تركيزاً جاداًّ داخل منظومة الأمم المتحدة على ضمان تحويل المعلومات إلى تحليل عملي ملموس. ويعني تصميماً إجمالياًّ أوسع قاعدةً على ترجمة الإنذار المبكر إلى عملٍ مبكر.
3-41 يجب على المجتمع الدولي تشجيع الدول التي ما زالت هشة وهي خارجة من صراع، أو التي تقع في مناطق عرضة للصراع، على السلوك سلوكاً حسناً يمنع وقوع صراع، وتأييد هذا السلوك والمكافأة عليه بطرق عملية. ويجب أن يعمل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مع الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية ودون الإقليمية لضمان إعطاء الدعم الكامل للدول التي بذلت جهوداً متضافرة لمعالجة قضايا الحكم والتوفيق والتأهيل الطويل الأجل والإعمار. وينبغي للمجتمع الدولي أن يقدم دعماً محدَّداً مفصًّلاً جيداً على جناح السرعة لتوحيد هذه الجهود وتعضيدها. وباستخدام الأمم المتحدة كمركز تنسيق، يمكن إنشاء فرقة عمل تجمع بين الأمم المتحدة ومؤسسات بريتون وودز والمؤسسات الإقليمية ودون الإقليمية والوطنية الملائمة لوضع استراتيجيات ملائمة تمكِّن من الاعتراف السريع بهذه الجهود وتصمم صفقات مساعدة مفصلة جيداً، تمضي إلى ما هو أبعد كثيراً من المعونة التقليدية، لمعالجة مسائل الاستدامة الطويلة الأجل كالتجارة والاستثمار وبناء المؤسسات.
3-42 ما يلزم الآن، دعماً لكل هذه الأمور المحددة، أن يغير المجتمع الدولي تفكيره من “ثقافة رد الفعل” إلى “ثقافة الوقاية”. ويعني خلق هذه الثقافة، كما ذكَّرنا الأمين العام، “وضع معايير لمساءلة الدول الأعضاء والمشاركة في وضع ممارسات للمنع على جميع الصُّعُد، المحلي والوطني، والإقليمي، والعالمي.” وهذه مهمة آن أوانها منذ زمن بعيد.
3-43 سيظل العالم، بدون التزام صادق لمنع وقوع صراعات على جميع الصُّعُد -بدون تكريس طاقة جديدة وزخم جديد لهذه المهمة -يشهد المجازر التي يتعرض لها البشر أمثالنا دون لزوم، والهدر اللامبالي للموارد الثمينة على صراعات بدلاً من أن تُنفق على التنمية الاجتماعية والاقتصادية. لقد آن الأوان لأن نتحمل نحن كلنا مسؤوليتنا العملية عن منع الخسائر في الأرواح البشرية التي لا لزوم لها وأن نكون على استعداد للعمل لقضية الوقاية لا للتصليح بعد وقوع الكارثة فقط.
 
4 – مسؤولية الرد
 
4-1 تنطوي “مسؤولية الحماية” قبل كل شيء على مسؤولية القيام برد فعل لأوضاع فيها الحاجة ملحة إلى الحماية البشرية. عندما تفشل التدابير الوقائية في حل الوضع أو احتوائه، وعندما تكون الدولة غير قادرةٍ أو غير راغبةٍ في معالجة الوضع، ربما يلزم اتخاذ تدابير تدخُّلية من قبل أعضاء آخرين في مجتمع الدول الأوسع نطاقاً. وقد تشمل هذه التدابير القسرية تدابير سياسية أو اقتصادية أو قضائية، وفي الحالات البالغة الشدة -لكن في الحالات البالغة الشدة فقط –ربما تشمل أيضاً تدابير عسكرية. ومن حيث المبادئ الأولى، في حالة رد الفعل كما في حالة الوقاية، ينبغي دائماً النظر في اتخاذ تدابير أقل اقتحاماً وأقل قسراً قبل استخدام تدابير أكثر قسراً واقتحاماً.
4-2 ينبغي الوفاء بشروط عتبة قاسية قبل التفكير في تدخل عسكري. وفي حالة التدابير السياسية والاقتصادية والقضائية يمكن أن يكون الحاجز أقل ارتفاعاً، أما في حالة التدخل العسكري فيجب أن يكون عالياً: لكي يتسنى الدفاع عن العمل العسكري يجب أن تكون الظروف خطيرة حقاًّ. ولكن شروط العتبة أو “الزناد” ليست نهاية الأمر. هناك سلسلة من المبادئ الاحترازية الإضافية ينبغي الوفاء بها لضمان بقاء التدخل قابلاً للدفاع عنه من حيث المبدأ وقابلاً للتنفيذ ومقبولاً في الواقع.
 
التدابير الممكنة دون العمل العسكري
 
4-3 لا يعني فشل التدابير الوقائية من الأسباب الجذرية أو الأسباب المباشرة لتفادي أو احتواء أزمة إنسانية أو صراع أن العمل العسكري لازم بالضرورة. إنما ينبغي أوَّلاً، حيثما أمكن، دراسة مسألة اتخاذ تدابير قسرية دون العمل العسكري، بما فيها، على وجه الخصوص، مختلف أنواع الجزاءات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
4-4 فالجزاءات تعوق قدرة الدول على التعامل مع العالم الخارجي بينما لا تمنع الدولة مادياًّ من القيام بأعمالٍ داخل حدودها. وتهدف هذه التدابير، مع ذلك، إلى إقناع السلطات المعنية باتخاذ أو عدم اتخاذ تدبير معين أو تدابير  معينة. أما التدخل العسكري، من جهة أخرى، فيتدخل مباشرة في قدرة السلطات الداخلية على العمل في داخل أراضيها. فهو فعلياًّ يزيح السلطة الداخلية ويحل محلها (في الأجل القصير على الأقل) ويهدف إلى معالجة المشكلة المعينة أو التهديد الحاصل معالجةً مباشرة. لهذه الأسباب، وبسبب المخاطر الأصيلة التي تصاحب أي استخدام للقوة الفتاكة، كان احتمال استخدام العمل العسكري القسري دائماً يثير من القلق البالغ أكثر مما يثيره فرض جزاءات سياسية أو دبلوماسية أو اقتصادية.
4-5 مع أن استخدام التدابير القسرية دون القوة العسكرية أفضل، عل وجه العموم، من استخدام القوة، يمكن أن تكون هذه التدابير غير العسكرية أسلحة مثلومة وفي الغالب لا تميز بين المذنب والبريء  ويجب توخي بالغ الحرص في استخدامها لتجنب إحداث ضرر أكبر من الفائدة -ولا سيما للسكان المدنيين. فالجزاءات الاقتصادية الشاملة، على وجه الخصوص، فقدت مقبوليتها بصورة متزايدة في السنوات الأخيرة، حين لاحظ الكثيرون أن الشدائد التي يتعرض لها السكان المدنيون من جراء هذه الجزاءات تميل إلى أن تكون بعيدة جداًّ عن التناسب مع الأثر المرجح للجزاءات على سلوك الجهات الفاعلة الرئيسية. وتميل هذه الجزاءات أيضاً إلى أن تظهر فيه عيوب بسرعة وتتدهور على مر الزمن، لا سيما عندما تكون مراقبتها رديئة، كما حدث في كل الحالات تقريباً. والجزاءات التي تستهدف القيادات والمنظمات الأمنية المسؤولة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان برزت بصورة متزايدة كبديل هام عن الجزاءات العامة في السنوات الأخيرة، واجتذبت الجهودُ الراميةُ إلى جعل هذه الجزاءات أكثر فعاليةً مزيداً من الاهتمام. ويعترف مجلس الأمن الآن والقانون الدولي بوجه عام باستثناء المواد الغذائية واللوازم الطبية من هذه الجزاءات، مع أنَّ مسألة توريد اللوازم الطبية للمقاتلين ربما تثير مناقشة في بعض الأحيان.
4-6 ركزت الجهود الرامية إلى تحديد أهداف الجزاءات تحديداً أكثر فعالية، لتقليل أثرها على المدنيين الأبرياء وزيادته على أصحاب القرار، على ثلاثة مجالات مختلفة، هي العسكري، والاقتصادي، والسياسي/الدبلوماسي. والمراقبة الفعالة في المجالات الثلاثة جميعها ضرورية جداًّ إذا ما أريد أن تكون هناك أية إمكانية لفعالية الجزاءات.
 
4-3 لا يعني فشل التدابير الوقائية من الأسباب الجذرية أو الأسباب المباشرة لتفادي أو احتواء أزمة إنسانية أو صراع أن العمل العسكري لازم بالضرورة. إنما ينبغي أوَّلاً، حيثما أمكن، دراسة مسألة اتخاذ تدابير قسرية دون العمل العسكري، بما فيها، على وجه الخصوص، مختلف أنواع الجزاءات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
4-4 فالجزاءات تعوق قدرة الدول على التعامل مع العالم الخارجي بينما لا تمنع الدولة مادياًّ من القيام بأعمالٍ داخل حدودها. وتهدف هذه التدابير، مع ذلك، إلى إقناع السلطات المعنية باتخاذ أو عدم اتخاذ تدبير معين أو تدابير  معينة. أما التدخل العسكري، من جهة أخرى، فيتدخل مباشرة في قدرة السلطات الداخلية على العمل في داخل أراضيها. فهو فعلياًّ يزيح السلطة الداخلية ويحل محلها (في الأجل القصير على الأقل) ويهدف إلى معالجة المشكلة المعينة أو التهديد الحاصل معالجةً مباشرة. لهذه الأسباب، وبسبب المخاطر الأصيلة التي تصاحب أي استخدام للقوة الفتاكة، كان احتمال استخدام العمل العسكري القسري دائماً يثير من القلق البالغ أكثر مما يثيره فرض جزاءات سياسية أو دبلوماسية أو اقتصادية.
4-5 مع أن استخدام التدابير القسرية دون القوة العسكرية أفضل، عل وجه العموم، من استخدام القوة، يمكن أن تكون هذه التدابير غير العسكرية أسلحة مثلومة وفي الغالب لا تميز بين المذنب والبريء  ويجب توخي بالغ الحرص في استخدامها لتجنب إحداث ضرر أكبر من الفائدة -ولا سيما للسكان المدنيين. فالجزاءات الاقتصادية الشاملة، على وجه الخصوص، فقدت مقبوليتها بصورة متزايدة في السنوات الأخيرة، حين لاحظ الكثيرون أن الشدائد التي يتعرض لها السكان المدنيون من جراء هذه الجزاءات تميل إلى أن تكون بعيدة جداًّ عن التناسب مع الأثر المرجح للجزاءات على سلوك الجهات الفاعلة الرئيسية. وتميل هذه الجزاءات أيضاً إلى أن تظهر فيه عيوب بسرعة وتتدهور على مر الزمن، لا سيما عندما تكون مراقبتها رديئة، كما حدث في كل الحالات تقريباً. والجزاءات التي تستهدف القيادات والمنظمات الأمنية المسؤولة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان برزت بصورة متزايدة كبديل هام عن الجزاءات العامة في السنوات الأخيرة، واجتذبت الجهودُ الراميةُ إلى جعل هذه الجزاءات أكثر فعاليةً مزيداً من الاهتمام. ويعترف مجلس الأمن الآن والقانون الدولي بوجه عام باستثناء المواد الغذائية واللوازم الطبية من هذه الجزاءات، مع أنَّ مسألة توريد اللوازم الطبية للمقاتلين ربما تثير مناقشة في بعض الأحيان.
4-6 ركزت الجهود الرامية إلى تحديد أهداف الجزاءات تحديداً أكثر فعالية، لتقليل أثرها على المدنيين الأبرياء وزيادته على أصحاب القرار، على ثلاثة مجالات مختلفة، هي العسكري، والاقتصادي، والسياسي/الدبلوماسي. والمراقبة الفعالة في المجالات الثلاثة جميعها ضرورية جداًّ إذا ما أريد أن تكون هناك أية إمكانية لفعالية الجزاءات.
4-7 في المجال العسكري:
• حظر السلاح أداة هامة في يد مجلس الأمن والمجتمع الدولي تُستخدم عندما ينشب صراع أو يُهدَّدُ بنشوبه. ويشمل هذا الحظر بوجه عام بيع المعدات العسكرية وقطع الغيار أيضاً.
• وضع حد للتعاون العسكري وبرامج التدريب تدبير آخر شائع، وإن  كان أقل حدَّةً، تستخدمه الدول أو تهدد باستخدامه لجعل دولة ما تمتثل القواعد الدولية، وإن كانت نتائجه متفاوتة.
4-8 في المجال الاقتصادي:
• ربما تستهدف الجزاءات المالية الأصول الموجودة في الخارج لبلد ما، أو حركة تمرُّد أو منظمة إرهابية، أو الأصول الموجودة في الخارج لزعماء معينين. وعندما يُستهدَف الأفراد يُوَسَّع نطاق هذه الجهود بصورة متزايدة لتشمل أفراد الأسرة المباشرين للفرد المعني.
• أخذ فرض القيود على الأنشطة المدرة للدخل كالنفط والماس وقطع الأخشاب من الغابات والمخدرات يصبح أكثر فأكثر واحداً من أهم أنواع الجزاءات ذات الأهداف المحددة، لأن الوصول إلى هذه الأنشطة أسهل من الوصول إلى الأموال التي تولِّدها، ولأن الأرباح العائدة من هذه الأنشطة لا تكون في الغالب مجرد  وسيلة لبدء صراع أو لمواصلته وإنما، في كثير من الحالات، تكون الدافع الرئيسي إلى نشوب الصراع.
• يمكن أن تكون القيود على الحصول على المنتجات النفطية طريقة هامة لتقييد العمليات العسكرية، مع أن هذه القيود يمكن أيضاً أن تكون لها آثار عامة وربما مدمرة على المدنيين والاقتصاد المحلي.
• استخدم حظر الطيران في عدد من الحالات وهو بوجه عام يحظر السفر الجوي الدولي من وإلى جهة معينة.
4-9 في المجال السياسي والدبلوماسي:
• القيود على التمثيل الدبلوماسي، بما في ذلك طرد الموظفين الدبلوماسيين، وإن كانت هذه القيود في الماضي تعتبر بصورة رئيسية ذات أهمية رمزية وتتصل إلى حدٍّ كبير بمعركة كسب الرأي العام، أصبحت الآن بصورة متزايدة تُعتبر تدبيراً ذا صلةٍ ومفيداً في الجهود الرامية إلى الحد من المعاملات غير المشروعة -سواءٌ أكانت لبيع سلع غير مشروعة، كالماس الذي يُستخرج بصورة غير مشروعة، أو المخدرات، أو لشراء السلاح وغيره من المعدات العسكرية ذات الصلة، أو فيما يتعلق بحركة الأموال.
• فرض قيود على السفر، لا سيما إلى مناطق التسوُّق الدولية الرئيسية، أثبتت أن لها شيئاً من الفائدة عندما تستخدم ضد زعماء أو أفراد معينين وضد أسرهم.
• تعليق عضوية الدولة في الهيئات الدولية أو الإقليمية أو طردها منها، وما قد ينطوي عليه ذلك لا من فقدان المكانة الدولية فحسب، وإنما كذلك فقدان التعاون التقني أو المساعدة المالية التي ربما تتلقاها البلدان من هذه الهيئات، أداةٌ أخرى أصبحت تٌُستخدَمُ بصورة متزايدة.
• رفض قبول بلد في عضوية هيئة معينة، وهذا جزاءٌ مصاحب لما تقدم استُخدِمَ أحياناً وعاد بنتائج جيدة.
 
اتخاذ قرار التدخل
في الحالات البالغة الشدة فقط
 
4-10 في الحالات البالغة الشدة والاستثنائية ربما تشمل مسؤولية رد الفعل ضرورة اللجوء إلى تدبير عسكري. لكن ما هي الحالة البالغة الشدة؟ أين يجب أن نضع الخط في تحديد متى يكون التدخل العسكري، للوهلة الأولى، قابلاً للدفاع عنه؟
4-11 ينبغي أن تكون نقطة البداية هنا، كما في أية حالة أخرى، مبدأ عدم التدخل. هذه هي القاعدة التي يجب تبرير أي خروج عنها. فجميع أعضاء الأمم المتحدة لهم مصلحة في المحافظة على نظام الدول ذات السيادة، المعتمدة على نفسها، المسؤولة، ولكنها مترابطة. وأفضل طريقة لخدمة هذه المصلحة في معظم الحالات هي أن تمتنع جميع الدول، كبيرها وصغيرها، عن التدخل أو التداخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. ومعظم الخلافات الداخلية السياسية أو المدنية، حتى الصراعات، داخل الدول لا تتطلب تدخُّلاً قسرياًّ من قوى خارجية. وقاعدة عدم التداخل لا تحمي الدول والحكومات فقط: إنما تحمي الشعوب والثقافات أيضاً وتمكِّن المجتمعات من المحافظة على اختلافاتها الدينية والإثنية والحضارية التي تعتز بها.
4-12 قاعدة عدم التدخل في الشؤون الدولية تقابل مبدأ أبوقراط -أوَّلاً لا تُسَبِّبْ أذىً. والتدخل في الشؤون الداخلية للدول غالباً ما يكون ضاراًّ. فهو ربما يزعزع استقرار نظام الدول بينما يؤجج نار الصراع الإثني والأهلي. فعندما تعتقد قوىً داخلية تسعى إلى معارضة الحكومة أن في وسعها توليد تأييدٍ لها من الخارج بشنِّها حملةَ عنفٍ فإن النظام الداخلي للدول كلها يصبح عرضة للأذى. وقاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية تشجع الدول على حل مشاكلها الداخلية بنفسها وتمنع هذه المشاكل من الاتساع إلى حد تهدد معه السلم والأمن الدوليين.
4-13 ومع ذلك توجد ظروف استثنائية نرى فيها أن مصلحة جميع الدول في الحفاظ على نظام دولي مستقر هي نفسها تتطلب منها أن تقوم برد فعل عندما ينهار النظام كله في دولة ما أو يبلغ الصراع الأهلي والقمع حداًّ من العنف يهدد المدنيين بمذبحة أو إبادة جماعية أو تطهير عرقي على نطاق واسع. ووجدت اللجنة في مشاوراتها أنه حتى في الدول التي توجد فيها أقوى معارضة للاعتداء على السيادة يوجد قبول عام لحقيقة أنه يجب  أن يكون ثمة استثناءات محدودة من قاعدة عدم التدخل في أنواع معينة من حالات الطوارئ. والرأي الذي أُعرِبَ عنه بصورة عامة هو أن هذه الظروف الاستثنائية يجب أن تكون حالات عنف “تهز ضمير البشرية” حقاًّ، أو تشكل خطراً قائماً وواضحاً على الأمن الدولي بحيث تستدعي تدخلاً عسكرياًّ قسرياًّ.
4-14 بالنظر إلى هذا الاتفاق الدولي العام على الحاجة إلى تدابير عسكرية قسرية عبر الحدود، في حالات استثنائية من الخطورة على البشر، تكون المهمةُ تعريفَ ماهية هذه الظروف الاستثنائية بأقصى درجة ممكنة من الدقة  لزيادة إمكانيات التوصل إلى توافق في الرأي في أية حالة بعينها إلى أبعدِ حدٍّ ممكن. فما هي العتبة الدقيقة للعنف والإساءة أو الانتهاكات الأخرى التي يجب تخطيها قبل أن يمكن بدء تبرير دخول قوة عسكرية قسرية عبر حدود وطنية؟ هل هناك أي معايير أخرى ينبغي أو يجب الوفاء بها  قبل اتخاذ قرار بالتدخل؟
 
ستة معايير للتدخل العسكري
 
4-15 ربما لا يكون من الصعب، كما يبدو لأول وهلة، تعيين معايير التدخل العسكري لأغراض الحماية البشرية التي ينبغي أن يتفق عليها الناس. صحيح أنه يوجد الآن عدد من القوائم المختلفة بهذه المعايير بقدر عدد المساهمات في الأدبيات والمناقشة السياسية في هذا الموضوع. ولكن اختلاف أطوال هذه القوائم واختلاف المصطلحات المستخدمة فيها لا ينبغي أن يخفي حقيقة أن المرء يجد أرضية مشتركة واسعة عندما يركِّز على المسائل الرئيسية.
4-16 وإن كانت لا توجد قائمة واحدة مقبولة على صعيد عالمي، ترى اللجنة أنه يمكن تلخيص جميع المعايير ذات الصلة باتخاذ القرارات تلخيصاً بارعاً تحت العناوين الستة التالية: الإذن الصحيح، القضية العادلة، النية الصحيحة، الملجأ الأخير، التناسب، الاحتمالات المعقولة.
4-17 عنصر الإذن الصحيح -من يستطيع الإذن بتدخل عسكري -عنصر هام جداًّ ويستحق مناقشة كاملة له وحده: وسترد هذه المناقشة في الفصل السادس. ومضمون مبدأ القضية العادلة -ما هو نوع الضرر الذي يكفي لقدح زناد تدخل عسكري يَجُبُّ مبدأ عدم التدخل -هو المسألة الثانية التي تتطلب معظم المناقشة، وسيكون هذا المبدأ موضوع الفرع التالي من هذا الفصل. أما المعايير الأربعة الأخرى، التي يضيف كل واحد منها عنصراً مختلفاً من عناصر الحكمة أو الحذر في معادلة اتخاذ القرار، فتُناقَشُ معاً في الفرع الأخير من هذا الفصل.
 
معايير العتبة: القضية العادلة
 
4-18 جاءت دعوات إلى التدخل لأغراض الحماية البشرية في الماضي من سلسلة عريضة من الحُجج المختلفة، وكانت معنية بسلسلة عريضة من الظروف والملابسات واستجابة لها، واقتُرِحَت معايير كثيرة مختلفة للتدخل أثناء مشاوراتنا. أما رأي اللجنة فهو أن الاستثناءات من مبدأ عدم التدخل يجب أن تكون محدودة. ويجب أن يُعتَبَرَ التدخل العسكري لأغراض الحماية البشرية تدبيراً استثنائياًّ فوق العادة، ولكي يكون مبرَّراً يجب أن يحدث ضرر خطير لأشخاص لا يمكن إصلاحه أو يُرجَّحُ أن يكون حدوثُه وشيكاً.
4-19 ترى اللجنة أن التدخل العسكري لأغراض الحماية البشرية له ما يبرره في مجموعتين عامتين من الظروف، لإيقاف أو تجنُّب:
• خسائر كبيرة في الأرواح وقعت أو يُخشى وقوعُها، سواء أكان ذلك أم لم يكن بنيَّة الإبادة الجماعية، وتكون نتيجة عمل مدبر من الدولة أو إهمال الدولة أو عدم قدرتها على التصرف أو لوضعٍ تكون فيه الدولة عاجزة؛ أو
• “تطهير عرقي” على نطاق واسع واقع أو يُخشى وقوعه، سواء أكان ذلك بالقتل أو الإبعاد كرهاً أو القيام بأعمال إرهابٍ أو اغتصاب نساء.
إذا توفر أحد هذين الشرطين أو كلاهما ففي رأينا أن عنصر “القضية العادلة” من عناصر قرار التدخل يكون قد استُوفي.
4-20 من المهم أن نوضح ما يشمله هذان الشرطان وما لا يشملانه. ترى اللجنة أنهما في العادة يشملان الأنواع التالية من الأوضاع التي تهز الضمير:
• الأعمال المعرَّفة في إطار اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، التي تنطوي على وقوع أو خشية وقوع خسارة كبيرة في الأرواح؛
• التهديد بوقوع خسارة كبيرة في الأرواح أو وقوعها فعلاً، سواءٌ أكان ذلك نتيجة لنية حربِ أم لا، وسواءٌ أكان ذلك أم لم يكن ينطوي على عمل قامت به الدولة؛
• مظاهر مختلفة “للتطهير العرقي”، بما فيها القتل المنهجي لأفراد مجموعة معينة بغية تقليل أو إزالة وجودها في منطقة معينة؛ إبعاد أفراد مجموعة معينة مادِّياً وبصورة منهجية من منطقة جغرافية معينة؛ أعمال إرهاب تهدف إلى إرغام الناس على الفرار؛ اغتصاب نساء مجموعة معينة من الناس بصورة منهجية لأغراض سياسية (إما كشكل آخر من أشكال الإرهاب أو كوسيلة لتغيير التكوين الإثني لتلك المجموعة)؛
• ارتكاب تلك الجرائم بحق الإنسانية وانتهاكات قوانين الحرب، المعرَّفة في اتفاقيات جنيف وبروتوكوليها الإضافيين وفي مواقع أخرى، التي تنطوي على قتل أعداد كبيرة من الناس أو تطهير عرقي؛
• حالات انهيار الدولة وما يترتب عليه من تعرُّض السكان لمجاعة كبيرة و/أو حرب أهلية؛
• كوارث طبيعية أو بيئية باهظة تكون الدولة غير راغبة أو غير قادرة على مواجهتها، أو تدعو إلى مساعدة، وتكون قد وقعت أو يخشى أن تقع فيها خسائر كبيرة في الأرواح.
4-21 في الشرطين العامين اللذين عرفناهما -خسارة الأرواح والتطهير العرقي -وصفنا العمل المعني بأنه يجب أن يكون حادثاً  “على نطاق واسع” لكي يبرر التدخل العسكري. ولم نحاول تحديد “النطاق الواسع” تحديداً كمياًّ: فقد تختلف الآراء في بعض الحالات الحدِّيَّة (مثلاً في الحالات التي يقع فيها عدد من الحوادث على نطاق ضيق تتراكم فتصبح فظاعةً على نطاق واسع)، ولكن معظم الحالات لا تؤدي في الواقع إلى اختلافٍ كبير. غير أن ما نوضحه هو أن العمل العسكري يمكن أن يكون مشروعاً كتدبير استباقي استجابةً لأدلة واضحة على أن من المرجح أن يحدث قتلٌ على نطاق واسع. وبدون إمكانية القيام بعمل استباقي هذه، يوضع المجتمع الدولي في موقف لا يمكن الدفاع عنه إذ يُطلَبُ منه التريُّث حتى تقع الإبادة الجماعية قبل أن يتمكن من اتخاذ إجراء لوقفها.
4-22 المبادئ التي حددناها لا تحاول أن تميز بين الحالات التي يقع فيها القتل أو التطهير العرقي نتيجة لعمل -أو عمل متعمد -من الدولة أو في حالات تكون فيها الدولة المعنية عاجزة أو منهارة. ففي الحالات التي تكون فيها الدولة قد فشلت أو انهارت ولم تعد هناك حكومة قادرة فعلاً على ممارسة المسؤولية السيادية عن حماية السكان ربما يبدو مبدأ عدم التدخل أقل قوة. لكن عندما نأتي إلى مسألة عتبة “القضية العادلة” -مسألة تقرير ما إذا كانت الظروف خطيرة إلى حد يبرر التدخل، لا يبقى هناك فرق أدبي أساسي بين أن تكون الجهات الفاعلة التي تُعَرِّضُ السكان للخطر تابعةً للدولة أو غير الدولة.
4-23 هنا أيضاً، المبادئ التي عرَّفناها لا تميز بين الإساءات التي تقع كلها داخل حدود دولة معينة دون حدوث عواقب مباشرة خارج هذه الحدود، وبين الإساءات التي تكون لها تداعيات أوسع نطاقاً. وهذا يعكس ثقتنا في أنه، في الحالات الشديدة التي تهز الضمير من النوع الذي نحن معنيون به، يوجد في العادة عنصر تهديد السلم والأمن الدوليين المطلوب بموجب الفصل السابع من الميثاق كشرط مسبق لإذن مجلس الأمن بتدخل عسكري. وتُبَيِّنُ ممارسةُ مجلس الأمن في التسعينات أن المجلس بالفعل مستعد للإذن بعمليات قسرية حين تكون  الأزمة المعنية، لكل الأغراض العملية، محصورة داخل حدود دولة معينة.
4-24 بينما صغنا شروط “القضية العادلة” بعبارات عامة توضِّحُ اللجنة أيضاً أنها تستبعد بعض الأوضاع التي أدُّعِيَ بين الحين والآخر أنها تبرر الاستخدام القسري للقوة العسكرية لأغراض الحماية البشرية.
4-25 أوَّلاً، قاومت اللجنة كل إغراءٍ لتعريف انتهاكات حقوق الإنسان التي تقصِّر عن القتل المباشر أو التطهير العرقي، كالتمييز العنصري المنهجي مثلاً، أو السَّجن المنهجي أو أشكال القمع الأخرى التي تُمارَسُ ضد المناهضين السياسيين، بأنها حجة تبرر التدخل العسكري. وقد تكون هذه الحالات مناسبة جداًّ للنظر في توقيع جزاءات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية ولكنها، في نظر اللجنة، لا تبرر تدابير عسكرية لأغراض الحماية البشرية.
4-26 ثانياً، اتخذت اللجنة رأياً مشابهاً فيما يتعلق بالحالات التي  يُحرَم فيها سكانٌ أعربوا بوضوح عن رغبتهم في نظام ديمقراطي من هذا الحق الديمقراطي بانقلاب عسكري. فالإطاحة بحكومة ديمقراطية أمر خطير يستدعي عملاً متضافراً من المجتمع الدولي، كالجزاءات، أو تعليق أو سحب قروض أو عضوية في منظمة دولية أو اعتراف -وربما تكون هناك أيضاً آثار أمنية إقليمية كَأَنْ يكونَ مجلس الأمن مستعداًّ للإذن بتدخل عسكري (بما في ذلك عمل عسكري من قبل منظمة إقليمية) بحجة “السلم والأمن الدوليين” التقليدية. وربما تكون هناك حالات أخرى تطلب فيها الحكومة المطاح بها صراحةً دعماً عسكرياًّ، ويمكن تقديم هذا الدعم في إطار أحكام الدفاع عن النفس المبينة في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. ولكن رأي اللجنة هو أن التدخل العسكري لأغراض الحماية البشرية ينبغي أن يظل محصوراً، هنا وفي مواقع أخرى، بالحالات التي يُهَدَّدُ فيها بوقوع، أو تقع فيها فعلاً، خسائر كبيرة في الأرواح أو تطهير عرقي.
4-27 ثالثاً، فيما يتعلق باستخدام دولة ما القوةَ العسكرية لإنقاذ مواطنيها الموجودين في إقليم دولة أجنبية، الذي يُدَّعى أحياناً بأنه مبرر آخر “للتدخل الإنساني”، نحن نرى أن ذلك مغطى تغطية ملائمة بموجب القانون الدولي الراهن، وبخاصة في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. وينطبق الشيء نفسه على استخدام القوة رداًّ على هجوم إرهابي على إقليم الدولة أو مواطنيها: بقدر ما يكون استخدام القوة مبرَّراً فهو مؤيَّدٌ بتوليفة من المادة 51 والأحكام العامة الواردة في الفصل السابع من الميثاق، كما أوضح مجلس الأمن في قراراته الصادرة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001.
 
مسألة الأدلة
 
4-28 حتى عندما يتم التوصُّل إلى توافق في الرأي حول أنواع الأوضاع التي يمكن أن تبرر تدخلاً عسكرياًّ يظل مع ذلك من الضروري في كل حالة تقرير ما إذا كانت الأحداث الواقعة فعلاً تفي بالمعايير المقدمة -أيْ وقوع خسائر كبيرة في الأرواح أو تطهير عرقي فعلاً أو التهديد بوقوعها. وفي حالات كثيرة تُقَدَّمُ “وقائع” أو نصوص لوقائع الأحداث متنافسة -وغالباً ما يكون ذلك لإعلام أو تضليل الرأي الخارجي. والحصول على معلومات منصفة ودقيقة صعب ولكنه ضروري جداًّ.
4-29 في الأحوال المثالية يُقدَّمُ تقرير عن مدى خطورة الوضع، وعن عدم قدرة الدولة المعنية أو عدم رغبتها في إدارة الوضع بشكلٍ مُرْضٍ، من مصدر غير حكومي يكون محايداً ومحترماً على صعيد عالمي. وكثيراً ما ذكرت لنا لجنة الصليب الأحمر الدولية باعتبارها مرشحة بديهية لهذا الدور، ولكنها لأسباب مفهومة -تقوم على ضرورة بقائها ورؤية الناس لبقائها بعيدة كل البعد عن اتخاذ القرار السياسي وقادرة على العمل في أي مكان على الأرض -ترفض رفضاً قاطعاً أن تقوم بمثل هذا الدور.
4-30 يصعب تصوُّر أي حلٍّ مؤسَّسِيٍّ لمشكلة الأدلة، من نوع يضع الوفاء بمعيار “القضية العادلة” في كل حالة في موضع أبعد ما يكون عن الشك والمناقشة. لكنَّ ثمة طرقاً أخرى يمكن بها الحصول على معلومات وتقديرات ذات مصداقية، والسماح للأدلة بأن تتحدث عن نفسها. والتقارير التي تعدها هيئات وأجهزة الأمم المتحدة -كالمفوض السامي لحقوق الإنسان والمفوض السامي لشؤون اللاجئين، مثلاً -أو تُعَدُّ لها، في سياق عملياتها العادية تقارير هامة، ويمكن أن تكون كذلك التقديرات التي تُعَدُّ لمنظمات دولية أخرى والمنظمات غير الحكومية لأغراضها الخاصة، وأحياناً تقارير وسائط الإعلام.
4-31 علاوةً على ذلك، عندما يكون وجود الأحوال التي تبرر التدخل لأغراض الحماية البشرية موضع طعن، يمكن لمجلس الأمن أو الأمين العام أن يوفد بعثة لتقصي الحقائق، إن كان الوقت يسمح بذلك، بغية الحصول على معلوماتٍ دقيقةٍ وتقديرٍ منصفٍ لوضعٍ معيَّن. وتعتقد اللجنة أن ثمة فائدة معينة لقيام الأمين العام بالتماس النُّصح من شهودٍ موضوعيين في مقام يمكنهم إسداء النصح وغيرهم من الأشخاص الذين لديهم معرفة جيدة بالوضع المعني. وإن لدى الأمين العام للأمم المتحدة، بموجب المادة 99 من الميثاق، سلطة هائلة، ولكنها إلى حدٍّ كبيرٍ غير مستخدمة بالقدر الكافي، لأن ” ينبه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين”: هذه سلطة يمكن استغلالها وتكون لها آثار قوية جداً في هذا السياق.
 
معايير احتياطية أخرى
 
4-32 لكي يكون لقرار التدخل العسكري ما يبرره، ويُرى أن له ما يبرره، ثمة أربعة شروط هامة أخرى ينبغي استيفاؤها: النية الصحيحة، والملجأ الأخير، والوسائل المتناسبة، والاحتمالات المعقولة. وعندما تؤخذ هذه الشروط ومبدأ عتبة “القضية العادلة” معاً، لكي تشكل مجتمعةً القرارات السياسية لمجلس الأمن وللدول الأعضاء تعتقد اللجنة بأنها ستضع حدوداً ضيقة جداًّ لاستخدام القوة العسكرية القسرية لأغراض الحماية البشرية. فمقصدنا ليس إعطاء رخصة للقيام بأعمال عدوانية باستخدام كلمات لطيفة ولا هو إعطاء الدول القوية أسباباً منطقية جديدة لتحقيق مقاصدَ استراتيجيةٍ مشكوكٍ فيها، وإنما هو تعزيز نظام الدول بإعطاء مبادئ توجيهية واضحة لتوجيه العمل الدولي المتضافر في تلك الظروف الاستثنائية حين يهدد العنفُ داخلَ دولةٍ ما جميعَ الشعوبِ بالخطر.
النية الصحيحة
4-33 يجب أن يكون المقصد الرئيسي للتدخل وقف أو تجنُّب معاناة الناس. ولا يمكن تبرير أي استخدام للقوة العسكرية يهدف من البداية إلى تغيير الحدود، مثلاً، أو تعزيز مطالبةِ مجموعةٍ محاربةٍ معينةٍ بتقرير المصير. وليست الإطاحة بنظام حكم في حد ذاتها هدفاً شرعياًّ، وإن كان تعطيل قدرة ذلك النظام على إلحاق الأذى بشعبه ربما يكون ضرورياًّ للنهوض بأعباء ولاية الحماية -وما يلزم لتحقيق هذا التعطيل يختلف من حالة إلى حالة. وربما لا يمكن تجنُّبُ احتلال أرضٍ، ولكن الاحتلال لا ينبغي أن يكون هدفاً معلناًّ في حد ذاته، ويجب أن يكون ثمة التزام واضح منذ البداية بإعادة الأرض لدى انتهاء الأعمال القتالية إلى الدولة صاحبة السيادة عليها، وإن لم يمكن ذلك -إدارتها على أساس مؤقت تحت رعاية الأمم المتحدة.
4-34 من الطرق التي تساعد على استيفاء معيار “النية الصحيحة” أن يتم التدخل العسكري دائماً على أساس جماعي متعدد الأطراف لا على أساس بلد منفرد. وثمة طريقة أخرى هي أن ننظر إن كان الناس الذين يُقْصَدُ بالتدخل مساعدتهم يؤيدون التدخل أم لا وإن أيدوه فإلى أي مدىً. وثمة طريقة أخرى هي أن ننظر إن كان رأي البلدان الأخرى في المنطقة قد أُخِذَ في الحسبان وأنها مؤيدة للتدخل، وإلى أي مدىً. في بعض المناقشات عُرِّفت هذه الاعتبارات بأنها معايير مستقلة في حد ذاتها، ولكن رأي اللجنة هو أنها يجب أن تُعتبَرَ عناصر فرعية من العنصر الأكبر وهو النية الصحيحة.
4-35 ربما لا يكون الدافع الإنساني دائماً هو الدافع الوحيد للدولة أو الدول المتدخلة، حتى في إطار تدخل يأذن به مجلس الأمن. فالانتفاء التام للمصلحة -عدم وجود أي مصلحة ذاتية ضيقة على الإطلاق -ربما يكون وضعاً مثالياًّ ولكنَّ من المستبعد أن يكون في جميع الأحوال حقيقةً واقعة: فالدوافع المختلطة حقيقة واقعة في الحياة سواء في العلاقات الدولية أو غيرها. وعلاوة على ذلك، ما ينطوي عليه العمل العسكري من تكلفة مالية وخطورة على الأفراد المشاركين فيه ربما يُملي على الدولة المتدخلة، من الناحية السياسية، أن يكون لها قدر من المصلحة الذاتية في التدخل، أياًّ كان مدى الإيثار في دافعها الرئيسي بالفعل. وبالإضافة إلى المصالح الاقتصادية أو الاستراتيجية، يمكن أن تتخذ تلك المصلحة الذاتية، مثلاً، شكل الحرص على تجنُّب تدفُّق اللاجئين أو منع وجود ملجأ لمنتجي المخدرات أو الإرهابيين في جوار البلد المتدخل، وهو حرص مفهوم.
4-36 أفضل وأقصر جواب نردُّ به على جماهير الناخبين الذين يطلبون في الواقع من حكوماتهم ألا تكون مُؤْثِرَةً على نفسها، في موضوع التدخل لأغراض الحماية البشرية، أو مدفوعة بما أسميناه “النية الصحيحة”، وإنما يجب أن تأخذ في اعتبارها المصلحة القومية لبلدها فقط، هو أن نقول لها إن المواطَنَةَ الدولية الصالحة هذه الأيام هي مصلحة ذاتية قومية. فنظراً إلى الصلات الوثيقة بين مختلف أرجاء العالم وترابطه كما نعرفه اليوم وإمكانيةِ تَسَـبُّبِ الأزمات التي تحدث في “بلدان بعيدة لا نعرف عنها شيئاً”، كما هو حاصلٌ الآن، في وقوع مشاكل كبيرة في أماكن أخرى (مع تدفقات اللاجئين، وانتشار الأوبئة، والإرهاب، والاتجار بالمخدرات، والجريمة المنظمة، وما أشبه ذلك)، ثمة حجة قوية للقول إن من مصلحة كل بلد أن يساهم في التعاون على حل هذه المشاكل، ناهيك عن الضرورة الإنسانية التي تقتضي منها المساهمة. هذا موضوع سنعود إليه في الفصل الختامي من تقريرنا.
 
الملجأ الأخير
 
4-37 ينبغي أن يكون قد تم استطلاع كل طريق دبلوماسي وغير عسكري لمنع حدوث أزمة إنسانية، أو لحلها سلمياًّ إن حدثت. فلا يمكن تبرير مسؤولية القيام برد فعل -بالقسر العسكري -إلا عندما تؤدى مسؤولية الوقاية أداءً تاماًّ. ولا يعني هذا بالضرورة أن يكون كل خيارٍ من هذا القبيل قد جُرِّبَ وفشل: فغالباً ما لا يتوفر الوقت الكافي للقيام بهذه العملية حتى نهايتها. وإنما يعني أنه يجب أن تكون هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأن التدبير المعيَّن لو حاولنا اتخاذه، في جميع الظروف، لن ينجح.
4-38 وإذا كانت الأزمة المعنية تنطوي على صراع بين دولةٍ وأقليةٍ متمردة يجب حفز الطرفين على التفاوض. ويكون وقف إطلاق النار، متبوعاً عند الضرورة بنشر قوات دولية لحفظ السلام والمراقبة، أفضل دائما – إن أمكن -من الرد العسكري القسري. والحل الطويل الأجل للصراع مع أقلية إثنية أو لضغوطٍ انفصالية داخل دولة ما غالباً ما يكون حلاًّ وسطاً يتم التوصل إليه تدريجياًّ، يضمن للأقلية استقلالها الذاتي لغوياًّ وسياسياًّ وثقافياًّ، بينما يحافظ على السلامة الإقليمية للدولة المعنية. ولا يمكن النظر في خيار عسكري تقوم به قوى خارجية إلا إذا فشلت محاولات جرت بحسن نية لإيجاد حل وسط من هذا القبيل بسبب عناد أحد الطرفين أو كليهما واندلعت أعمال عنف على نطاق واسع أو أوشكت أن تندلع.
 
الوسائل التناسبية
 
4-39 يجب أن يكون حجم التدخل العسكري المـُزمع ومدَّته وحِدَّته عند الحد الأدنى الضروري لضمان تحقيق الهدف الإنساني المراد تحقيقه. ويجب أن تكون الوسائل متناسبة مع الغايات وعلى قدر الاستفزاز الأساسي. ويجب أن يكون الأثر على النظام السياسي للبلد المستهدف محدوداً، هنا أيضاً، بقدر ما هو ضروريٌّ حقاًّ لتحقيق الغرض من التدخل. وإن حدث أن كانت ماهية الآثار العملية الدقيقة لهذه القيود مثار نقاش في كل حالة، فإن المبادئ التي تقوم على أساسها واضحةٌ وضوحاً كافياً.
4-40 غنيٌّ عن القول إنه يجب مراعاة جميع قواعد القانون الإنساني الدولي مراعاة تامة في هذه الأوضاع. فنظراً إلى كون التدخل العسكري ينطوي على شكل من أشكال العمل العسكري مركَّزٍ على نحوٍ أضيقَ كثيراً وموجَّهٍ إلى هدف أكثر تحديداً من القتال في حرب شاملة، يمكن القول بضرورة تطبيق معايير في هذه الحالات أعلى كثيراً حتى من المعايير التي تطبق في الحرب.
 
الإمكانيات المعقولة
 
4-41 لا يمكن تبرير العمل العسكري إلا إذا كانت أمامه فرصة معقولة للنجاح، أي وقف أو تجنب ارتكاب الفظائع أو المعاناة التي أدت إلى التدخل في المقام الأول. فلا مبرر للتدخل العسكري إذا لم يتسنَّ تحقيق حماية فعلية، أو إذا كان من المرجح أن تكون عواقب التدخل أسوأ من عواقب عدم اتخاذ أي إجراء. وعلى وجه الخصوص، لا يمكن تبرير العمل العسكري لأغراض حماية بشرية محدودة إذا كان سيسَبِّبُ صراعاً أكبر. فعند ذلك تكون الحالة أن بعض الأشخاص لا يمكن إنقاذهم إلا بتكلفة غير مقبولة -ربما وقوع حرب إقليمية أكبر، تشترك فيها دول كبرى. وفي هذه الحالات، أيَّما كانت الحقيقة مؤلمة، لا يبقى ثمة مبرر للعمل العسكري القسري.
4-42 من المرجح أن يؤدي تطبيق هذا المبدأ الاحترازي، لأسباب نفعية بحتة، إلى تعذُّر القيام بعمل عسكري ضد أي دولة من الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن، حتى لو توفرت جميع الشروط الأخرى للتدخل الوارد وصفها هنا. فمن الصعب أن نتصور تجنب وقوع صراع كبير أو نجاح الهدف الأصلي إذا تم القيام بهذا العمل ضد رغبة أية دولة منها. ويصح القول نفسه على الدول العظمى الأخرى التي لا تتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن. وهذا يثير، هنا أيضاً، مسألة المعايير المزدوجة -ولكن موقف اللجنة هنا، كما في أي موقع آخر، هو ببساطة: إن حقيقة أنه لا يمكن القيام بتدخل في كل حالة تبرر ظروفُها التدخلَ ليست سبباً لعدم التدخل في كل الحالات.
4-43 ففيما يتعلق بالدول العظمى توجد، مع ذلك، أنواع أخرى من الضغط يمكن ممارستها عليها، كما حدث في حالة إندونيسيا وتيمور الشرقية، مثلاً. ويمكن، بل ينبغي، النظر في أنواع أخرى من العمل الجماعي -بما في ذلك الجزاءات -في مثل هذه الحالات كجزء من مسؤولية الحماية.
 
5 – مسؤولية إعادة البناء
الالتزامات في فترة ما بعد التدخل
بناء السلام
 
5-1 تنطوي مسؤولية الحماية لا على مجرد الوقاية أو رد الفعل، وإنما أيضاً على المتابعة وإعادة البناء. وهذا يعني أنه إذا أتُّخِذَ إجراء تدخل عسكري -بسبب انهيار الدولة أو تخليها عن قدرتها أو سلطتها على النهوض بـ “مسؤولية الحماية” -ينبغي أن يكون ثمة التزامٌ حقيقيٌّ بالمساعدة على إعادة بناء سلام دائم، والعمل على إيجاد حسن الإدارة وتنمية مستدامة. وينبغي إعادة تهيئة الأحوال المواتية لإعادة بناء السلامة العامة والنظام العام من قِبَلِ موظفين دوليين يعملون في شراكة مع السلطات المحلية، بهدف تحويل سلطة إعادة البناء والمسؤولية عنها إلى هذه السلطات.
5-2 ينطوي ضمان إعادة البناء والتأهيل المستدامين على ربط موارد كافية لهذه المهمة، وتعاونٍ وثيقٍ مع السكان المحليين؛ وربما يعني البقاء في البلد فترة من الزمن بعد تحقيق المقاصد الأولى من التدخل. وفي معظم الأحيان في الماضي كانت مسؤولية إعادة البناء لا تلقى الاعتراف الكافي وإدارة خروج المتدخلين إدارة سيئة، والالتزام بالمساعدة على إعادة البناء غير كافٍ، فكانت البلدان تجد نفسها في نهاية المطاف ما زالت تصارع المشاكل الكامنة التي أدت إلى التدخل أصلاً.
5-3 وإذا ما فكرنا في القيام بتدخلٍ عسكري، فإن الحاجة إلى استراتيجية لما بعد التدخل هي أيضاَ ذات أهمية بالغة. فالتدخل العسكري أداةٌ واحدة في منظورٍ من الأدوات أوسعَ يهدف إلى منع وقوع صراعات وحالات طوارئ إنسانية أو زيادة حدتها أو انتشارها أو بقائها أو تكرارها. ويجب أن يكون هدف هذه الاستراتيجية المساعدة على ضمان عدم تكرار الأحوال التي أدت إلى التدخل العسكري أو مجرد إعادة ظهورها.
5-4 إنَّ أنجح حالات الوساطة لا تحدث بالضرورة على مستوى عالٍ من الحوار السياسي، ولا في عمليات شبيهة بالعمليات القضائية (وإن كنا نفهم جيداً الدور الإيجابي الذي يمكن أن تؤديه لجان الحقيقة والتوفيق في بيئات معينة تحصل بعد الصراع). وأفضل طريقة لتحقيق التوفيق الحقيقي تكون بإعادة البناء على مستوى القاعدة الشعبية، عندما يمد المحاربون السابقون أيديهم بعضهم إلى بعض ويعيدون بناء مجتمعهم أو يخلقون أحوالَ معيشةٍ وعمالةً معقولة في مستوطنات جديدة. ويحدث التوفيق الحقيقي الدائم بجهود يومية مستمرة لإصلاح البنية التحتية، وإعادة بناء المساكن، والزراعة والحصاد، والتعاون على القيام بالأنشطة الإنتاجية الأخرى. ويجب أن يكون الدعم الخارجي لمجهودات التوفيق واعياً للحاجة إلى تشجيع هذا التعاون وربطه ربطاً دينمياًّ بجهود التنمية الأخرى المشتركة بين الطرفين المتخاصمين السابقين.
5-5 وصف الأمين العام بكل وضوحٍ طبيعة بناء السلام بعد انتهاء الصراع وأسبابه المنطقية في تقريره المقدم في عام 1998 عن أسباب الصراع والعمل على تحقيق السلام الدائم والتنمية المستدامة في إفريقيا، فقال:
ما أقصده بعبارة بناء السلام بعد انتهاء الصراع هو الإجراءات المتخذة في نهاية الصراع لتعزيز السلام ومنع عودة المجابهة المسلحة. وقد أظهرت الخبرة أن تعزيز السلام في أعقاب الصراع يحتاج إلى أكثر من مجرد الدبلوماسية والعمل العسكري، وأن أي جهد متكامل ضروري لمعالجة مختلف العوامل التي سببت اندلاع الصراع أو تهدد بنشوب صراع. وقد يتطلب بناء السلام إنشاء أو تعزيز مؤسسات وطنية، ورصد الانتخابات، وتشجيع حقوق الإنسان، والتكفل ببرامج إعادة الاندماج والإنعاش، وكذلك تهيئة الفرص اللازمة لاستئناف التنمية. وبناء السلام ليس بديلاً عن الأنشطة الإنسانية والإنمائية الجارية في البلدان الخارجة من الأزمات، وإنما الهدف منه هو البناء على هذه الأنشطة والإضافة إليها أو إعادة توجيهها بطرق مرسومة للحد من أخطار استئناف الصراع، والمساهمة في إيجاد أفضل الظروف التي تفضي إلى المصالحة والتعمير والانتعاش.
5-6 ومضى الأمين العام في تقريره فوصف بمزيد من التفصيل ما يلزم في أعقاب الصراع، أو – في هذه الحالة – التدخل:
للمجتمعات الخارجة من الصراع حاجاتها الخاصة. ولتفادي العودة إلى الصراع مع وضع أساس متين للتنمية، لا بد من التأكيد على أولويات حاسمة مثل المصالحة، وإظهار الاحترام لحقوق الإنسان، وتعزيز الشمولية السياسية، والنهوض بالوحدة الوطنية، وتأمين إعادة اللاجئين والمشردين إلى أوطانهم أو توطينهم في مرحلة باكرة وبشكل آمن وسلس؛ وإعادة اندماج المحاربين السابقين وغيرهم في المجتمع المنتج، وتقليص إتاحة الأسلحة الصغيرة للناس، وحشد الموارد المحلية والدولية اللازمة لدعم التعمير والانتعاش الاقتصادي. وكل أولوية تتصل بكل أولوية أخرى، ويقتضي نجاحها جهداً متضافراً ومنسَّقاً على كافة الجبهات.
الرسالة واضحة. لا يوجد بديل عن استراتيجية واضحة وفعالة لفترة ما بعد التدخل.
5-7 نستعرض فيما يلي، باختصار، بعض القضايا الرئيسية التي تواجه راسمي السياسة في ممارسة مسؤولية إعادة البناء في المجالات الثلاثة الأكثر مباشرة، وهي الأمن، والعدل، والتنمية الاقتصادية. في الفصل السابع، الذي يعالج المسائل التنفيذية نعود إلى عدد من هذه الأمور من منظور القوات المسلحة على الأرض في بيئات ما بعد التدخل.
الأمن
 
5-8 من الوظائف الأساسية لقوة التدخل أن توفر الأمن الأساسي والحماية الأساسية لجميع السكان بغض النظر عن الأصل الإثني أو العلاقة بمصدر السلطة السابق في الإقليم. في الأوضاع السائدة بعد انتهاء الصراع، تحدث في كثير من الأحيان عمليات قتل ثأرية، أو حتى “عمليات تطهير عرقي مضاد”، لأن الفئات التي كانت قد اعتُدِيَ عليها تهاجم الفئات المرتبطة بقامعيها السابقين. ومن الضروري جداًّ أن تخطط عمليات ما بعد التدخل لهذه الحالة الطارئة قبل الدخول وتوفير أمن فعال لجميع السكان، بغض النظر عن أصلهم، حينما يحدث الدخول. ولا يوجد شيء يسمى “أقليات مذنبة” في مرحلة ما بعد التدخل. كل فرد له الحق في الحماية الأساسية لروحه وممتلكاته.
5-9 تتصل واحدة من أصعب وأهم القضايا التي ينبغي مواجهتها في مرحلة ما بعد التدخل بنزع السلاح، وتسريح المقاتلين وإعادة دمج قوات الأمن المحلية. وإعادة الدمج تستغرق في العادة أطول فترة لتحقيقها ولكن لا يمكن الحكم على نجاح العملية بممجملها حتى تتم كلها بنجاح. كما أن ثمة عنصراً ضرورياًّ، وهو إعادة الأمن والنظام في البلد إلى نصابهما لأن الجندي المسرَّح، ما لم تتم إعادة دمجه في المجتمع على الوجه الصحيح، وتوفير دخل مستدام له، ربما يتحول إلى الجريمة المسلحة أو المعارضة السياسية المسلحة. وسيكون النجاح في نزع سلاح أفراد القوات العسكرية والأمنية وبذل جهود أخرى لجمع الأسلحة الصغيرة ومنع دخول أسلحة جديدة عنصراً هاماًّ من عناصر هذا المجهود.
5-10 ثمة عنصر آخر من عناصر هذه المشكلة، وهو إعادة بناء القوات المسلحة الوطنية والشرطة الوطنية الجديدة، مع دمج أكبر عدد ممكن من الفئات المسلحة التي كانت متنافسة في السابق أو القوات المسلحة. هذه العملية حيوية للمصالحة الوطنية وحماية الدولة المعاد إنشاؤها حال خروج القوات المتدخلة. غير أنه ثبت في معظم الأحيان في الماضي، في كمبوديا وغيرها، أن المسألة تأخذ وقتاً أطول من اللازم للسلطات المتدخلة، وباهظة الكلفة والحساسية للجهات المانحة الدولية التي تود أن تتجنب توجيه اتهامات لها فيما بعد بأنها أعادت تسليح الأعداء السابقين.
5-11 تُسمَعُ بانتظامٍ شكاوى من الضباط العسكريين في مختلف أنحاء العالم من أنهم في حالات التدخل وما بعدها يُعطَوْنَ في كثير من الأحيان وظائف لم يكونوا مدربين عليها وهي أَلْيَقُ ما تكون للشرطة. والجواب البسيط على ذلك هو أن الشرطة المدنية لا تتمكن من العمل إلا في البلدان التي توجد فيها نظم قانون ومحاكم عاملة. ومع أن وجود بعض أفراد الشرطة مع أية عملية عسكرية ربما يكون ضرورياًّ منذ بداية العملية لأغراض منها تدريب أفراد الشرطة المحلية، ربما لا يوجد بديل يُذكَر للممارسة الراهنة المتمثلة في نشر قوات معظمها عسكرية بادئ الأمر ولكن كلما تحسَّنَتْ الأحوال وأعيد بناء المؤسسات الحكومية يُدخَلُ أفراد الشرطة المدنية بالتدريج.
5-12 عرَّف السياسيون والعسكريون على السواء جزءاً أساسياًّ من التخطيط لفترة ما قبل التدخل بأنه استراتيجية الخروج (ليست جدولاً زمنياًّ للخروج) للقوات المتدخلة. وثمة قوَّةٌ في الحجة القائلة إنه بدون استراتيجية من هذا القبيل توجد مخاطر كبيرة في شن أي تدخل عسكري على الإطلاق، لأن الخروج غير المخطط، ناهيك عن الخروج المستعجل، ربما تكون له آثار فاجعة أو، في أحسن الأحوال، مثيرة للقلاقل في البلد، ويمكن أيضاً أن تسيء إلى سمعة حتى الجوانب الإيجابية من التدخل نفسه.
العدل والمصالحة
 
5-13 في حالات كثيرة، ربما يكون البلد الذي حدث فيه تدخل عسكري لم يوجد فيه أبداً نظام قضائي غير فاسد أو يؤدي عمله على الوجه الصحيح، بما في ذلك المحاكم والشرطة، أو ربما يكون هذا النظام قد تدهور أو اختفى من الوجود حين بدأت الدولة نفسها تنهار. وقد أصبح لدى دوائر الأمم المتحدة وغيرها إدراك متزايد، وبخاصة منذ عملية سلطة الأمم المتحدة الانتقالية في كمبوديا في أوائل التسعينات، لأهمية وضع ترتيبات للقضاء أثناء العملية وإعادة النظم القضائية إلى نصابها في أسرع وقت ممكن بعد التدخل. والمسألة ببساطة هي أنه إذا كان للقوة المتدخلة ولاية حماية حقوق الإنسان من مزيد من الانتهاكات، ولكن لا يوجد نظام عامل بمعاقبة منتهكي هذه الحقوق فستصبح عندئذٍ مهمة القوة غير قابلة للتحقيق، ليس هذا فقط وإنما يرجَّح أن تكون كل عمليتها قد فقدت شيئاً من مصداقيتها محلياًّ ودولياًّ على السواء.
5-14 طوَّرَ عدد من الهيئات غير الحكومية “حوافظ عدلية” يمكن تعديلها لتلائم أحوالاً محددة لعدد كبير متنوع من العمليات، ويجب اعتبارها جزءاً لا يتجزأ من أي استراتيجية لبناء السلام بعد التدخل، ريثما يعاد إنشاء المؤسسات المحلية. يجب أن تشمل هذه التدابير قانوناً جنائياًّ نموذجياًّ موحَّداً يمكن استخدامه في أي وضع لا يوجد فيه قوانين مناسبة لتطبيقها، ويجب تطبيقه فور بدء التدخل لضمان حماية الأقليات وتمكين القوات المتدخلة من اعتقال الأشخاص الذين يرتكبون جرائم.
5-15 ثمة مسألة ذات صلة بما تقدم، وهي عودة اللاجئين والحقوق القانونية للعائدين من أبناء الأقليات الإثنية وغيرها. غالباً ما يهدف التفاوت في المعاملة في توفير الخدمات الأساسية، ومساعدة العائدين وتوظيفهم وقوانين الملكية إلى إعطاء إشارة قوية إلى العائدين بأنهم غير مرغوبين. فقد كان التمييز في تقديم المساعدة للإعمار مشكلة كبيرة في كرواتيا، مثلاً، وهو مكرَّس في القانون. وفي كثير من أنحاء العالم حاول العائدون أن يلجأوا إلى المحاكم لإخراج السكان المؤقتين (الذين غالباً ما يكونون هم أنفسهم لاجئين) من بيوتهم واستعادة ملكيتها المشروعة، ولكن محاولاتهم انتهت بالإحباط من إعادة التملُّك. فالقوانين إما أن توفر حماية غير كافية لحقوق الملكية أو تكون قد صيغت على نحو يثني اللاجئين عن العودة ويضر بالعائدين منهم.
5-16 من بين الحواجز صعوبات في إثبات حقوق الإيجار في العقارات التي كانت في السابق مملوكة ملكية اشتراكية، وهي الشكل الرئيسي للملكية في يوغوسلافيا السابقة. ومن الأمثلة على ذلك: عدم وجود وثائق قانونية؛ واستمرار التعويق من قبل السلطات المحلية. وكانت مشكلة اللاجئين والأشخاص المشردين داخل البلد الذين يحاولون استعادة ممتلكاتهم مشكلة حادة جداًّ في المناطق الحضرية. ففي كثير من الأحيان أعاق الضغط السياسي لإسكان عائلات أخرى في المباني التي أُخْلِيَتْ عودةَ أصحابها إليها، ولم يحدث تقدمٌ يذكر في مراجعة الحقوق القانونية لسكان المدن المستأجرين.
5-17 يتطلب تسهيل عودة اللاجئين إزالة العقبات الإدارية والبيروقراطية من طريق عودتهم، ووضع حد لثقافة الحصانة ضد مجرمي الحرب المعروفين أو المشتبه لهم، واعتماد قوانين ملكية غير تمييزية. غير إن إخراج السكان وحده لن يحل مشكلة العائدين. فالحاجة تدعو إلى بناء عدد كبير من المساكن في مختلف أنحاء البلد، ومن الضروري إقامة مشاريع ممولة من جهات مانحة لتلبية هذه الحاجات.
5-18 بالإضافة إلى ذلك ينبغي حل مسألة استدامة العودة حلاًّ صحيحاً -وهذا أمر أساسي لضمان نجاح عودة اللاجئين في الأجل الطويل. واستدامة العودة تتعلق بإيجاد الأحوال الاجتماعية والاقتصادية الصحيحة للعائدين. وتشمل أيضاً الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليمية والخدمات الأساسية الأخرى، وتتصل بالإصلاح في مجالات أخرى -مثل القضاء على الفساد، وتعزيز الحكم الصالح، وإنعاش البلاد اقتصادياًّ في الأجل الطويل.
 
التنمية
 
5-19 ينبغي أن تكون المسؤولية النهائية لأي تدخل عسكري عن بناء السلام، قدر الإمكان، تشجيع النمو الاقتصادي، وإعادة إيجاد الأسواق، والتنمية المستدامة. هذه المسائل هامة جداًّ ليس فقط لأنَّ للنمو الاقتصادي آثاراً على القانون والنظام وإنما لأنه ضروري أيضاً لإنعاش البلد المعني بوجه عام. وثمة عملٌ جانبي يجب أن يلازم هذا الهدف باستمرار، وهو أن تجد السلطات المتدخلة في أسرع وقت ممكن أساساً لوضع حدٍّ لأي تدابير اقتصادية قسرية تكون قد فرضت على البلد قبل أو أثناء التدخل، وعدم إطالة أمد الجزاءات الشاملة أو العقابية.
5-20 على السلطات المتدخلة مسؤولية خاصة عن إدارة نقل مسؤولية التنمية وإدارة المشاريع بأسلس طريقة ممكنة وفي أسرع وقت ممكن للقيادة المحلية  والجهات الفاعلة المحلية التي تعمل بمساعدة من وكالات التنمية الوطنية والدولية.
5-21 هذا إجراء مهم لا لأغراض التنمية الطويلة الأجل فحسب، وإنما يمثل أيضاً تعزيزاً إيجابياًّ للتدابير الأمنية في الأجل القصير من النوع الذي ناقشناه أعلاه: مما يقدم مساهمةً إيجابيةً بذلُ جهد فوري لتدريب المقاتلين المسرَّحين على القيام بأنشطة مُدِرَّةٍ للدخل، وكذلك تنفيذ مشاريع إعادة الدمج الاجتماعي والاقتصادي. فكلما عجلنا بإعلام المقاتلين المسرحين بالخيارات والفرص المتاحة لهم في المستقبل وشاهد المجتمع مظاهر حقيقية ملموسة لإمكانية عودة الحياة المدنية إلى وضعها العادي في ظروف آمنة كانت استجابته إيجابية فيما يتعلق بنزع السلاح والمسائل المتصلة به.
 
الإدارة تحت سلطة الأمم المتحدة
 
5-22 لعلنا نجد مبادئ توجيهية مفيدة لسلوك السلطات المتدخلة أثناء التدخل العسكري في الدول العاجزة، وفي فترة المتابعة، في تعديل الفصل الثاني عشر من ميثاق الأمم المتحدة تعديلاً بناءً. فهذا يمكِّن من تنفيذ الإعمار والتأهيل بطريقة منظمة في جميع مناحي الحياة، بدعم ومساعدة من المجتمع الدولي. وأكثر الأحكام صلةً بهذا الموضوع المادة 76، التي تشير إلى أن هدف النظام هو العمل على ترقية أهالي الإقليم المعني في أمور السياسة والاجتماع والاقتصاد والتعليم؛ والتشجيع على احترام حقوق الإنسان؛ وكفالة المساواة في المعاملة في الأمور الاجتماعية والاقتصادية والتجارية لجميع أعضاء “الأمم المتحدة” وأهاليها والمساواة بين هؤلاء الأهالي أيضا فيما يتعلق بإجراء القضاء.
5-23 هناك عنصر آخر في الفصل الثاني عشر غالباً ما يكون له صلة بسكان البلدان التي يحدث فيها تدخل، وهو يتصل بتقرير المصير (المادة 76 (ب)). فإنفاذ القوانين بقصد الحماية يشير عادة إلى المحافظة على أشكال الحكم الذاتي والاستقلال الذاتي في الإقليم أو إعادتها إلى نصابهما، وهذا بدوره يعني تسهيل إجراء الانتخابات وربما الإشراف على إجرائها، أو على الأقل مراقبتها من قبل السلطات المتدخلة. وبعد كل ما قيل نرى أن مسؤولية الحماية أساساً مبدأٌ يهدف إلى مواجهة التهديدات التي تتعرض لها حياة الناس لا أداةً لتحقيق أهداف سياسية، كمزيد من الاستقلال السياسي أو تقرير المصير أو الاستقلال لفئات معينة داخل البلد (وإن كانت هذه القضايا الكامنة يمكن أن تتصل بالاهتمامات الإنسانية التي أدت إلى التدخل العسكري). ولا ينبغي أن يكون التدخل نفسه أساساً لتحقيق مزيد من المطالب الانفصالية.
5-24 من المرجح دائماً أن يكون في الأمم المتحدة مقاومة عامة لبعث مفهوم “الوصاية” من مرقده بحجة أنه يمثل مجرد نوعٍ آخر من أنواع التدخل في الشؤون الداخلية. لكن من المرجح جداًّ أن تولد “الدول العاجزة” أوضاعاً لا يستطيع المجتمع الدولي تجاهلها كما حصل -وإن لم يكن ناجحاً -في الصومال. وأقوى حجة ضد الاقتراح ربما تكون حجة عملية وهي: تكلفةُ عمليةٍ من هذا النوع لفترةٍ طويلة لازمة بالضرورة لبعث المجتمع المدني من جديد وإصلاح البنية التحتية في دولة كهذه. ومن المؤكد أن ثمة شكوكاً قوية في استعداد الحكومات لتقديم هذا القدر من الموارد إلا في حالات معينة على ألاّ يتكرر ذلك إلا نادراً.
الملكية المحلية وحدود الاحتلال
 
5-25 كان لمطلب البقاء في البلد الذي حدث فيه التدخل فترة كافية لضمان الإعمار والتأهيل المستدامين آثار إيجابية وأخرى سلبية. فإلى جانب إزالة الأسباب الجذرية للصراع الأساسي (وهذا ما يؤمل) أو على الأقل تخفيف حدتها، واستعادة قدر من حسن الإدارة والاستقرار الاقتصادي، قد تعوِّد هذه الفترة السكان على المؤسسات والعمليات الديمقراطية إن لم تكن موجودة أصلاً في البلد. غير أن من الواضح أن البقاء في البلد له جوانب سلبية يجدر بنا أن نذكرها.
السيادة
 
5-26 تنشأ مسائل السيادة بالضرورة من استمرار وجود المتدخل في البلد المستهدف في فترة المتابعة. فالتدخل يعطِّل الادعاءات بالسيادة إلى حد يتعذر معه إقامة أو استعادة حسن الإدارة -والسلم والاستقرار كذلك -ما لم تكن لدى المتدخل سلطة على الإقليم. لكن تعليق ممارسة السيادة يكون فقط بحكم الواقع لفترة التدخل والمتابعة، لا بحكم القانون. كان هذا، مثلاً، هو هدف اتفاقات باريس بشأن كمبوديا في عام 1991، حين قام الجهاز المسمى “المجلس القومي الأعلى” الذي يضم ممثلين عن الفئات الأربع المتنافسة بنقل السلطة الفعلية إلى الأمم المتحدة لإدارة البلد إلى أن يتسنى إجراء انتخابات. وكذلك يمكن القول إن سيادة يوغوسلافيا على إقليم كوسوفو قد عُلِّقت مؤقتاً وإن كانت لم تفقدها بحكم القانون. والهدف العام ليس تغيير الترتيبات الدستورية وإنما حمايتها. وكما لوحظ أعلاه في مناقشة الوصاية، يعني التدخلُ العسكريُّ السعيَ إلى إدامة أشكال الحكومة المتفقة مع سيادة الدولة التي حصل التدخل فيها -لا تقويض تلك السيادة.
 
التبعية والتشويه
 
5-27 من البديهي أن التدخل الذي تُساءُ إدارتُه ويعامِلُ الناسَ علناً بطريقة تجعلهم يعتقدون بأنهم يُعامَلون كـ “أعداء” سيضر بأي جهود تأهيل على المدى البعيد. وكذلك برنامج الإعمار والتأهيل الذي لا يأخذ في الاعتبار، بالقدر الكافي، الأولويات المحلية، ويستبعد الأفراد المحليين يمكن أن يخلق تبعية غير صحية للسلطة المتدخلة، ويخنق إعادة نمو المؤسسات المحلية والاقتصاد، ويؤخر إلى أجل غير مسمى رغبة السكان أو قدرتهم على تحمل مسؤولية حكم أنفسهم.
5-28 يمكن أن يترك التدفق المفاجئ لمقادير كبيرة من العملات الأجنبية الذي يرافق القوات العسكرية المتدخلة (وأفراد الشرطة وموظفي الإدارة في المرحلة اللاحقة)، وإن كان يتعذر تجنُّبُه إلى حد كبير، آثاراً اقتصادية مشوِّهةً جداً في الاقتصادات التي غالباً ما تكون هشة، ويخلق توقُّعات غير واقعية لدى بعض فئات السكان على الأقل. ففي بعض الحالات تحاول النخبة المحلية اكتساب مرابح من هذا الوضع وتنشئ شبكات وممارسات فاسدة. ومن المرجح فيما بعد أن تعارض انسحاب السلطة المتدخلة وفي الوقت نفسه تقوض أي أمل في نجاح الإصلاح الاقتصادي والسياسي في البلد.
5-29 ثمة جانب سلبي آخر يتصل بالسلطات المتدخلة ذاتها. فكلما طالت فترة المتابعة ازداد العبء المالي والمادي الذي تسببه للدول المتدخلة ما لم تكن من البلدان الغنية المتقدمة النمو. حتى عندئذٍ، فإن المتابعة التي لا تستمر دون رؤيةِ نورٍ في نهاية النفق قد تكون عاملاً مثبِّطاً كبيراً يثني هذه البلدان عن المشاركة في عمليات تحمُّلِ مسؤولية الحماية في المستقبل بغض النظر عن جدارة تلك العمليات. والتوازن الذي يجب إقامته بين مصالح الشعب والبلد الذي يجري فيه التدخل ومصالح المتدخلين أنفسهم يمكن أن يتبين أنه توازن دقيق جداًّ.
 
الملكية المحلية وحدود الاحتلال
 
5-30 من الضروري جداًّ، كما تَبَيَّنَ من حالة كوسوفو، إقامةُ توازنٍ بين مسؤوليات الجهات الفاعلة الدولية والمحلية. فالجهات الدولية لديها الموارد اللازمة للمساعدة على تهيئة بيئة آمنة وبدء عملية الإعمار. لكن السلطات الدولية يجب أن تحرص على عدم الاستيلاء على المسؤولية السياسية على الأرض أو احتكارها. ويجب أن تتخذ خطوات لإقامة عملية سياسية بين الفئات المتنازعة والمجموعات الإثنية في مجتمع ما بعد الصراع تطوِّرُ كفاءة سياسية محلية في إطار يشجع التعاون بين الأعداء السابقين. فبدون هذه العملية السياسية ونقل المسؤولية من الموظفين الدوليين إلى المحليين توجد خطورة كبيرة، أولاً، من عودة العداء الإثني في الإقليم إلى سابق عهد الكراهية، وثانياً، من أن تجلس الجهات الفاعلة المحلية جانباً وتترك الجهات الفاعلة الدولية تتولى كل المسؤولية عن التوسُّط في التوترات المحلية.
5-31 الهدف الطويل الأجل للجهات الفاعلة الدولية في وضع قائم بعد انتهاء الصراع هو “أن تعزل نفسها من وظيفتها.” وتستطيع أن تفعل ذلك بإيجاد عمليات سياسية تتطلب من الجهات الفاعلة المحلية أن تتولى مسؤولية إعادة بناء مجتمعها وإيجاد أنماط للتعاون بين الفئات المتعادية. وإن عملية أيلولة المسؤولية إلى المجتمع المحلي هذه ضرورية للمحافظة على شرعية التدخل نفسه. فالتدخل لحماية البشر لا ينبغي أن يلطَّخ بأي شبهة في أنه شكل من أشكال الإمبريالية الاستعمارية الجديدة. بل على العكس، فمسؤولية إعادة البناء، المستمدة من واجب القيام برد فعل، ينبغي أن توجَّهَ إلى إعادة المجتمع المعني إلى أفراد هذا المجتمع الذين يجب، في نهاية المطاف، أن يتحملوا المسؤولية مجتمعين عن مصيرهم المستقبل.
 
6 – مسألة السلطة
 
6-1 هناك مسؤولية دولية عن حماية السكان الذين هم في خطر، وقالت هذه اللجنة إن هذه المسؤولية تمتد لتشمل القيام برد فعل بالوسائل الملائمة إذا وقعت كارثة أو بدا أنها توشك أن تقع. وفي حالات الشدة تمتد مسؤولية القيام برد فعل لتشمل التدخل العسكري في دولة ما للقيام بتلك الحماية البشرية. وقد تحدثنا في الفصل الرابع عن معايير عتبة ومعايير احتياطية شديدة ينبغي استيفاؤها في هذه الحالات: القضية العادلة، والنية الصحيحة، والملجأ الأخير، والوسائل التناسبية، والاحتمالات المعقولة للنجاح. كان يجب أن تكون المعايير شديدة لأن العمل المقترح هو نفسه شديد: فالتدخل العسكري يعني لا اقتحاماً لأرض دولة ذات سيادة فحسب، وإنما هو اقتحام ينطوي على استخدام قوة فتاكة، على نطاق يمكن أن يكون واسعاً جداًّ. لكن من الذي له الحق في أن يقرر، في أية حالة بعينها، إن كان ينبغي المضي قدماً في تدخل عسكري لأغراض الحماية البشرية؟
 
مصادر السلطة بموجب ميثاق الأمم المتحدة
 
6-2 مبدأ عدم التدخل، وهو مبدأ صلب صلابة الصخر، وارد في المادة 2-4 من الميثاق، التي تنص على أن ” يمتنع أعضاء الهيئة جميعا … عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد “الأمم المتحدة”، وفي المادة 2-7 التي تمنع الأمم المتحدة من التدخل ” في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما.” والشؤون التي تكون “من صميم السلطان الداخلي” لم تُعرَّف زيادة على ذلك والواقع أنها مثار خلاف كبير، لا سيما في سياق مسائل حقوق الإنسان.
6-3 ثمة تكييف جوهري للمبدأ الصلب يرد في المادة 24 من الميثاق التي، “رغبةً في أن يكون العمل الذي تقوم به الأمم المتحدة سريعاً وفعالاً،” تعهد إلى مجلس الأمن “بالتبعات الرئيسية في أمر حفظ السلم والأمن الدولي.” وثمة أحكام هامة تتصل بتسوية المنازعات بالطرق السلمية وهي واردة في الفصل السادس من الميثاق، ولكن الحد الجارح لهذه المسؤولية مبيَّنٌ في الفصل السابع، الذي يصف التدابير التي يمكن لمجس الأمن أن يتخذها عندما ” يقرر ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو وقع عمل من أعمال العدوان” (المادة 39).  هذه التدابير قد تقصِّر عن استخدام القوة ويجوز  أن يكون من بينها أعمال الحظر والجزاءات وقطع العلاقات الدبلوماسية (المادة 41). غير أنه إذا رأى المجلس أن من المرجح أن تكون هذه التدابير غير كافية، “جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه” -بعبارة أخرى له أن يلجأ إلى الإذن باستخدام القوة العسكرية (المادة 42).
6-4 هناك حكم آخر في الميثاق ينص صراحةً على الإذن باستخدام القوة العسكرية عبر الحدود، وهو المادة 51، التي تعترف بأن “ليس في هذا الميثاق ما يُضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة  على أحد أعضاء الأمم المتحدة” (على أن يكون مفهوماً أيضاً أن التدابير المتخذة يجب أن تُبلَغَ فَوراً إلى مجلس الأمن). من المستبعد أن ينطبق هذا على أوضاع التدخل العسكري التي هي موضوع هذا التقرير، إلا في حالة قيام المنظمات الإقليمية بتدابير ضد واحدة من الدول الأعضاء فيها. هذا الحكمُ والإذنُ الصادر عن مجلس الأمن بموجب الأحكام العامة للفصل السابع، ولكن لا شيء غيرهما في الميثاق، يجباّن صراحة حظر التدخل في السلطان الداخلي.
6-5 يعترف الفصل الثامن بوجود المنظمات الإقليمية ودون الإقليمية ودورها الأمن، ولكنه ينص صراحةً على أنه لا يجوز أن يتم “بمقتضى التنظيمات الإقليمية أو على يد الوكالات الإقليمية القيام بأي عمل من أعمال القمع بغير إذن المجلس.” غير أن من الطريف أن نلاحظ أن هذا الإذن أتى في بعض الحالات بعد الحدث لا قبله، كما حدث في الموافقة على تدخل فريق المراقبة التابع للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكوموغ) في ليبريا في عام 1992 وفي سيراليون في عام 1997.
6-6 تشكل الأحكام العامة للفصل السابع، والمادة 51 المعنية بالإذن الصريح بالدفاع عن النفس، وأحكام الفصل الثامن، معاً مصدراً هائلاً للإذن بمعالجة كل أنواع التهديدات التي يتعرض لها الأمن. فبعد الهجمات الإرهابية التي وقعت في 11 أيلول/سبتمبر 2001، مثلاً، سارع مجلس الأمن مستعيناً بالمادة 51 والفصل السابع بوجه عام)  إلى اتخاذ تدابير رداًّ على هذه الأعمال -وكذلك فعلت الجمعية العامة. ويوجد لدى العالم بالفعل منظمة عسكرية ودبلوماسية دائمة لديها القدرة (إن لم تكن لديها الإرادة دائماً) على معالجة كامل  منظور القضايا المتعلقة بالسلم والأمن والحماية البشرية: نسميها الأمم المتحدة.
6-7 بِـيَدِ مجلس الأمن المسؤوليةُ “الرئيسية” لكن ليست الوحيدة أو الحصرية، بموجب الميثاق، عن معالجة مسائل السلم والأمن. فالمادة 10 تعطي مسؤولية عامة للجمعية العامة فيما يتعلق بأي مسألة تقع في نطاق سلطة الأمم المتحدة، والمادة 11 تعطي الجمعية العامة مسؤولية يمكن الرجوع إليها فيما يتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين على وجه الخصوص -ولكنها مع الأسف تقتصر على تقديم التوصيات، ولا تتخذ قرارات ملزمة. والشرط الوحيد، الذي قصد به أن يحول دون وقوع انقسام بين الهيئتين الرئيسيتين للأمم المتحدة، هو ألا يكون مجلس الأمن يناقش القضية ذاتها في الوقت نفسه (المادة 12). ويجب أن يضاف إلى هذه الأسس الواردة في الميثاق لعمل الجمعية العامة القرار المتعلق بـ “الاتحاد من أجل السلام” الذي اتخذته الجمعية العامة في عام 1950 وأنشأت بموجبه إجراء عقد دورات استثنائية خاصة، واستُخدِمَ أساساً للعمليات التي نُفِّذَتْ في كوريا في تلك السنة وفيما بعد في مصر في عام 1956 وفي الكونغو في عام 1960. ومن الواضح أنه حتى في غياب موافقة مجلس الأمن، وتمتُّع الجمعية العامة بصلاحية تقديم توصيات فقط، يتمتع التدخل الذي يتم بموافقة الجمعية العامة في تصويت بأغلبية الثلثين بدعم أدبي وسياسي قوي.
6-8 أياًّ ما كانت الحجج القوية المتعلقة بتفسير معنى ونطاق مختلف أحكام الميثاق، ما من شك في أن الأمم المتحدة هي المؤسسة الرئيسية لبناء وتوطيد واستخدام سلطة المجتمع الدولي. فقد أنشئت لتكون مسمار عجلة النظام والاستقرار، والإطار الذي يتفاوض فيه أعضاء المنظومة الدولية ويتوصلون إلى اتفاقات بشأن قواعد السلوك والقواعد القانونية للسلوك الصحيح للمحافظة على مجتمع الدول. وبذلك قُصِدَ بالأمم المتحدة أن تكون محفلاً للتوسط في العلاقات بين القوى؛ وفي الوقت نفسه لتحقيق التغيير السياسي الذي يعتبره المجتمع الدولي عادلاً ومرغوباً فيه؛ وسن قواعد جديدة؛ وإضفاء طابع الشرعية الجماعية.
6-9 ترتكز سلطة الأمم المتحدة لا على القوة القسرية وإنما على دورها كمطبِّقَة للشرعية. ومفهوم الشرعية يعمل بمثابة صلة الوصل بين ممارسة السلطة واللجوء إلى القوة. ولا يجوز محاولة إنفاذ السلطة إلا على أيدي المندوبين الشرعيين لتلك السلطة. ويعتبر التدخل الجماعي بمباركة من الأمم المتحدة شرعياًّ لأنه مأذون به حسب الأصول من قبل هيئة دولية تمثيلية؛ وينظر إلى التدخل الفردي على أنه غير شرعي لأنه مدفوع بالمصلحة الذاتية. والذين يتحدَّوْنَ سلطة الأمم المتحدة باعتبارها الحارس الشرعي الوحيد للسلم والأمن الدوليين في حالات محددة ، أو يحاولون التهرب منها، يخاطرون بإضعاف سلطتها بوجه عام وكذلك بتقويض مبدأ النظام العالمي القائم على القانون الدولي والقواعد العالمية.
6-10 والأمم المتحدة أيضاً رمز لما يجب ألاّ تفعله الدول الأعضاء. ففي ميدان العلاقة بين الدولة والمواطن، تحدُّ أحكام الميثاق بمجموعها وصكوكٌ كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان من سلطة الدول على إلحاق أذى بسكانها القاطنين داخل حدودها الإقليمية. وفي مجال العمل العسكري خارج الحدود الإقليمية، تفرض عضوية الأمم المتحدة التزاماً على الدول الكبرى بالامتناع عن التدخل الفردي لصالح التدخل الجماعي المأذون به دولياًّ.
6-11 تقع مسؤولية حماية أرواح المواطنين والعمل على تحقيق رفاهيتهم أوّلاً وقبل كل شيء على عاتق الدولة ذات السيادة، وثانياً على عاتق السلطات الداخلية عاملة في شراكة مع جهات فاعلة خارجية، وثالثاً فقط على عاتق المنظمات الدولية. وكما اقترحنا في الفصل الثاني، لدى تناولنا مفهوم السيادة والمسؤولية، يُستمدُّ تبرير أساسي لإناطة السيادة بالدولة من هذا المبدأ. وتوجد فجوة -عجز في المسؤولية -إذا ثبت أن الدولة غير قادرة أو غير راغبة في حماية المواطنين، أو إذا هي أصبحت مرتكبةً لأعمال العنف ضد مواطنيها.
6-12 لقد انتقلت سلطة سن القوانين المجتمعية لتسوية مسائل السلم والأمن الدوليين من يد الدول الكبرى بالاتفاق فيما بينها إلى الأمم المتحدة. والأمم المتحدة، حيث مجلس الأمن في قلب النظام الدولي لإنفاذ القوانين، هي المنظمة الوحيدة التي لديها السلطة المقبولة عالمياًّ للتصديق على هذه العمليات. ولكنها هي نفسها لا تملك قدرة تنفيذية. ولكي تقوم الأمم المتحدة – بفعالية – بعمل منظمة الأمن الجماعي المنفذة للقوانين يجب أن تتخلى الدول عن الاستخدام الفردي للقوة لأغراض وطنية. ولكن النتيجة الطبيعية الملازمة لذلك، وليست دائماً مقبولةً بلا نقاش، هي أن الدول يجب أن تكون مستعدة لاستخدام القوة باسم الأمم المتحدة كما توجهها الأمم المتحدة ولأهداف الأمم المتحدة.
 
دور مجلس الأمن – ومسؤوليته
 
6-13 نظراً إلى أن المحظورات والافتراضات ضد التدخل مذكورة بصريح العبارة في الميثاق، وإلى أنه لا يرد نص صريح على “الاستثناء الإنساني” من هذه المحظورات، يصبح دور مجلس الأمن ذا أهمية بالغة. وثمة عدد من الأسئلة يكون المرء على حق معقول إذا سألها عن سلطة المجلس ومصداقيته، ونحن نتناولها فيما يلي أدناه: قدرته القانونية على الإذن بعمليات تدخل عسكري؛ إرادته السياسية للقيام بذلك وتفاوت أدائه بوجه العموم؛ عضويته غير التمثيلية؛ ازدواجية المعايير المؤسسية المتأصلة فيه لامتلاك الدول الخمس ذات العضوية الدائمة حق الفيتو. وهناك أسباب كثيرة لعدم الرضى عن الدور الذي قام به مجلس الأمن حتى الآن.
6-14 مع كل ما تَقَدَّمَ ذكرُه، لا يوجد لدى اللجنة أدنى شك في أنه لا توجد هيئة أفضل ولا أنسب من مجلس الأمن للتعامل مع قضايا التدخل العسكري لأغراض الحماية البشرية. فمجلس الأمن هو الذي يجب أن يتخذ القرارات الصعبة في القضايا الصعبة المتعلقة بِجَبِّ سيادةِ الدول. ومجلس الأمن هو الذي ينبغي أن يتخذ القرارات التي هي في الغالب أصعب حتى من ذلك لتعبئة الموارد الفعالة، بما فيها الموارد العسكرية، لإنقاذ السكان المعرضين للخطورة حين لا توجد معارضة جدية تقوم على أساس السيادة. ذلك هو توافق الرأي الغالب الذي لقيناه في مشاوراتنا في مختلف أنحاء العالم. وإذا ما أُريدَ التوصُّلُ إلى توافُقٍ دوليٍّ في الرأي في أي وقت كان بشأن متى ينبغي أن يحدث التدخل العسكري، وأين يحدث وكيف يحدث ومن سيقوم به، فمن الواضح جداً أن الدور المركزي لمجلس الأمن يجب أن يكون في صميم توافق الرأي هذا. فالمهمة ليست إيجاد بدائل لمجلس الأمن كمصدر للسلطة، وإنما هي جعل مجلس الأمن يعمل على وجه أفضل مما فعله حتى الآن.
6-15 ثمة نتيجة ضرورية ملازمة لهذا الفهم لدور مجلس الأمن، وهي أنه يجب أن تصبح الممارسة العادية أن تُعْرَضَ على المجلس رسمياًّ جميع الاقتراحات الرامية إلى التدخل العسكري. وبناء على ذلك اتفقت اللجنة على ما يلي:
• يجب التماس الإذن من مجلس الأمن في جميع الحالات قبل القيام بأي تدخل عسكري. ويجب على الذين يَدْعونَ إلى تَدَخُّلٍ أن يطلبوا هذا الإذن رسمياًّ أو أن يطلبوا من المجلس أن يثير المسألة بمبادرة منه أو أن يطلبوا من الأمين العام أن يثير المسألة بموجب المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة؛ و
• ينبغي أن ينظر مجلس الأمن على الفور في أي طلب إذنٍ بالتدخُّل حيث توجد ادِّعاءات بفقدان أرواح بشرية على نطاق واسع أو تطهير عرقي؛ وينبغي للمجلس في هذا السياق أن يلتمس تحقُّقاً كافياً من الحقائق أو الأحوال الموجودة على الأرض، التي تؤيد القيام بتدخل عسكري.
 
القدرة القانونية
 
6-16 تفوِّض المادة 42 مجلس الأمن في حالة ثبوت كون التدابير غير العسكرية “لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به،” أن يقرر اتخاذ تدابير عسكرية بقدر “ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه.” ومع أن هذه الصلاحيات فُسِّرَت تفسيراً ضيقاً إبان الحرب الباردة أخذ مجلس الأمن بعد انتهائها ينظر نظرة واسعة جداًّ على ماهية الأشياء التي تشكل “السلم والأمن الدولي” لهذا الغرض، وفي الواقع أصبح إذن مجلس الأمن يلقى قبولاً عالمياًّ يكاد يكون بلا استثناء، على أنه يعطي العمل العسكري قانونيةً دولية. ولم تكن الآثار المترتبة عبر الحدود على عدد من التدخلات المأذون بها في فترة ما بعد الحرب الباردة موضع شكٍّ أبداً. ولكن لا شك أيضاً في أن الآثار المترتبة عبر الحدود في حالات أخرى -وأبرزها الصومال -لم تكن بادية بنفس المقدار.
6-17 إن القول إن ما قام به مجلس الأمن فعلاً في هذه الحالات يصدِّق ما وصفناه في الفصل الثاني بأنه المبدأ التوجيهي الناشئ، مبدأ “مسؤولية الحماية،” موضع نقاش. وقد قلنا إن المبدأ يقوم على مجموعة متفرقة من الأسس القانونية (أحكام معاهدات حقوق الإنسان، واتفاقية الإبادة الجماعية، واتفاقيات جنيف، والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وما أشبه ذلك)، والممارسة المتنامية للدول -وممارسة مجلس الأمن نفسه. وإذا استمر الاعتماد على هذه الأسس في المستقبل فربما يتم في النهاية الاعتراف بظهور قانون دولي عرفي بهذا المعنى، ولكن كما سبق لنا الاعتراف، ربما يكون من السابق لأوانه الادعاءُ بوجود مثل هذه القاعدة في الوقت الحاضر.
6-18 ثمة مسألة نظرية هامة لم تُحَلَّ بعد،ُ وهي مسألة ما إذا كان مجلس الأمن يستطيع في الواقع أن يتجاوز سلطاته بانتهاكه القيود الدستورية المكرسة في الميثاق، ولا سيما الحظر الوارد في المادة 2-7. هذا الموضوع نظرت فيه محكمة العدل الدولية، ولكن لماماً فقط، في قضية لوكربي، بقرارها الصادر في عام 1998، بشأن الاعتراضات الأولية التي تؤكد أن مجلس الأمن مقيد بالميثاق. لكن يبدو أن المسألة محكوم عليها أن تظل نظرية فقط لأنه لا يوجد نص على مراجعة قضائية لقرارات مجلس الأمن، ولذلك لا سبيل إلى حل نزاع في تفسير الميثاق. ويبدو أن المجلس سيظل لديه متسع كبير لتحديد نطاق ما يشكِّل تهديداً للسلم والأمن الدوليين.
 
الشرعية والفيتو
 
6-19 ثمة موضوع مشترك برز في الكثيرِ الكثيرِ من مشاوراتنا، وهو الشرعية الديمقراطية لمجلس الأمن الذي يضم 15 عضواً، والذي صعب الادِّعاء بأنه يمثل حقائق العصر الحديث ما دام يستثني من عضويته الدائمة بلداناً ذات حجم ونفوذ كبيرين، لا سيما في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وادَّعَتْ جهات مختلفة أيضاً أن مجلس الأمن ليس مسؤولاً أمام شعوب العالم، ولا تحاسبه الجمعية العامة بكامل هيئتها، ولا تخضع قراراته للمراجعة القضائية والتمحيص القضائي. وما من شك في أن إصلاح مجلس الأمن، بتوسيع تشكيلته على وجه الخصوص وجعلها أصدق تمثيلاً، سيساعد على بناء مصداقيته وسلطته -وإن كان ذلك لن يؤدي بالضرورة إلى جعل عملية اتخاذ القرارات فيه أسهل. ولكن هذه مناقشة لا تحتاج اللجنة إلى الدخول فيها لأغراض هذا التقرير.
6-20 غير أن ثمة مسألة لا يمكن أن نتجنَّب مناقشتها، وهي مسألة حق الفيتو الذي تتمتع به الدول الخمس الدائمة العضوية في المجلس حالياًّ. وقال كثير من محدِّثينا إن من المرجح أن يكون استخدام الفيتو استخداماً نزوياًّ، أو التهديد باستخدامه، العقبة الرئيسية لاتخاذ تدابير دولية فعالة في الحالات التي يلزم فيها اتخاذ تدابير حاسمة وسريعة لوقف أو تجنُّب وقوع أزمة إنسانية كبيرة. وقيل إن من غير المقبول أن يتمكن فيتو واحد من التغلب على جميع البشرية في أمور تشكل قلقاً إنسانياًّ كبيراً. ومما يثير أشد القلق إمكانية أن يصبح الإجراء اللازم رهينةً لشواغل عضو دائم واحد أو أكثر لا صلة لها بهذا الإجراء -وهذا وضع حدث مراراً وتكراراً في الماضي. وهناك مشكلة سياسية أخرى، وهي أن الدول التي تصر على حقها في الاحتفاظ بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن وحق الفيتو الملازم لها تكون في موقف صعب عندما تدعي أن لها الحق في التصرف خارج إطار الأمم المتحدة نتيجة لكون المجلس مشلولاً بفيتو مارسه عضو دائم آخر. أي أن الذين يصرون على عدم تغيير قواعد اللعبة لا يستطيعون الادعاء بحقهم في رفض أية نتيجة بعينها عندما تُلعَبُ اللعبةُ بناءً على هذا القواعد نفسها.
6-21 لكل هذه الأسباب تؤيد اللجنة الاقتراح الذي قدمه إلينا بطريقة استطلاعية ممثل كبير لواحدة من الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في المجلس وهو أن تتفق الدول الدائمة الخمس على “مدونة لقواعد السلوك” في استخدام الفيتو فيما يتعلق بالتدابير اللازمة لوقف أو تجنُّب أزمة إنسانية. الفكرة أساساً هي أن يمتنع العضو الدائم في المسائل التي لا يُدَّعى أنها تمس مصالحه القومية عن استخدام الفيتو وسيلةً لمنع اتخاذ قرار ينال موافقة الأغلبية. وفي الماضي كان مصطلح “الامتناع البناّء” يُستخدَمُ في هذا السياق. وليس من الواقعي أن نتصور أن يحدث  أي تعديل للميثاق في وقت ما في المستقبل القريب بقدر ما يتعلق الأمر بحق الفيتو وتوزيع استعماله. ولكن اعتماد الأعضاء الدائمين ممارسة أكثر رسمية متفقاً عليها بينهم لتنظيم هذه الأوضاع في المستقبل سيكون تطوُّراً صحياً.
 
الإرادة السياسية والأداء
 
6-22 تذكُرُ اللجنة تحذير الأمين العام من أنه “إذا لم يستطِع الضمير الجماعي للإنسانية … أن يجد في الأمم المتحدة أكبر منبرٍ له فإن ثمة خطراً كبيراً من أن ينظر في اتجاه آخر بحثاً عن السلم وعن العدالة.” وإذا فشل المجلس -والأعضاء الدائمون الخمسة بوجهٍ خاص -في جعل المجلس ذا صلة بالمسائل الحرجة التي تشهدها هذه الأيام فلا يمكنهم أن يتوقعوا شيئاً غير اضمحلال أهمية المجلس ومركزه وسلطته.
6-23 بينما أبدى المجلس من حين لآخر التزاماً وقدرةً على النهوض بمسؤوليته، فغالباً ما قصَّر في حمل مسؤولياته أو فشل في أن يكون على مستوى التوقُّعات. وكان ذلك أحياناً لا لسببٍ إلا نتيجةً لقلة اهتمام الأعضاء الخمسة الدائمين. وفي بعض الأحيان كان بسبب القلق من كيفية تأثير التزام معين في السياسات الداخلية. وغالباً ما كان في السابق نتيجة خلافات بين الأعضاء الخمسة الدائمين حول التدابير الواجب اتخاذها إن وُجِدَت. وكان بصورة متزايدة نتيجة تردد بعض الأعضاء الرئيسيين في نحمُّل أعباء التدخل الدولي -ولا سيما الأعباء المالية وأعباء الأفراد.
6-24 ومن المهم جداًّ أن يُبذَلَ كل جهد ممكن لتشجيع  مجلس الأمن على ممارسة مسؤوليته عن الحماية -لا على التنصل منها. وهذا يعني -كما تقتضي المادة 24 من الميثاق – أن يعمل المجلس بسرعة وبصورة فعالة عندما يتعلق الأمر مباشرة بمسائل السلم والأمن الدوليين. ويعني قيادة واضحة ومسؤولة من قِبَلِ المجلس لا سيما عندما تقع خسائر كبيرة في الأرواح أو يكون ثمة تهديد بوقوعها، حتى وإن لم يكن ثمة تهديد مباشر أو وشيك للسلم والأمن الدوليين بالمعنى الحرفي للعبارة.
6-25 الأمم المتحدة موجودة في عالم من الدول ذات السيادة، ويجب أن تكون عملياتها مبنية على الواقعية السياسية. ولكن المنظمة أيضاً مستودع المثالية الدولية وهذا المعنى أساسي لهويتها. وهي ما زالت محطَّ الآمال والتطلعات نحو مستقبل يعيش فيه الرجال والنساء في سلام مع أنفسهم وفي انسجام مع الطبيعة. ولا يمكن لحقيقة انعدام الأمن البشري أن تختفي بالتمني. ومع ذلك فإن فكرة منظمة عالمية مكرسة لحماية السلم وتعزيز الرفاهية -وتحقيق معيشة أفضل وأسلم للجميع -قد أفلتت من الموت والدمار وخيبة الأمل التي خلقتها الصراعات المسلحة، والإبادة الجماعية، والفقر المستمر، وتدهور البيئة، والاعتداءات الكثيرة على كرامة الإنسان التي مرت بالبشرية أثناء القرن العشرين.
6-26 لكي تنجح الأمم المتحدة يجب على المجتمع العالمي أن يوفر للمنظمة موارد مكافئة للطلبات المطلوبة منها. فالأمم المتحدة لديها الشرعية الأدبية والمصداقية السياسية والحياد الإداري للتوسط في المشاداّت والتوتُّرات المتنافسة، التي ما زالت تعصف بالعلاقات الدولية، وتلطيفها والتوفيق بينها. وما زال الناس ينظرون إلى الأمم المتحدة  لـتُوجِّههم وتحميهم عندما تكون المهام أكبر وأعقد من أن تستطيع الأمم منفردةً أو المناطق الإقليمية أن تعالجها بنفسها. والميزات المقارنة للأمم المتحدة هي عضويتها العالمية، وشرعيتها السياسية، وحيادها الإداري، ودرايتها الفنية، وقدرتها على عقد الاجتماعات والتعبئة، وتفاني موظفيها.
6-27 الأمم المتحدة تمثل الفكرة التي أطلقت عنان القومية ويجب التوسط في التفاعل الفج بين القوى وتلطيفه في إطار دولي. إنها مركز المواءمة بين المصالح القومية والبوتقة التي تصهر المصالح الدولية. الأمم المتحدة وحدها هي التي تستطيع أن تأذن بعمل عسكري باسم المجتمع الدولي بأسره بدلاً من قِلَّةٍ مختارة من الدول. لكن الأمم المتحدة لا تملك قوات عسكرية وقوات شرطة خاصة بها ويمكن لائتلاف حلفاءٍ متعدد الدول أن يقدم قوة عسكرية أكثر مصداقية وكفاءة عندما يلزم القيام بعمل قوي له ما يبرره. والشيء الذي تزداد الحاجة إليه في المستقبل هو شراكات بين القادرين والراغبين والحَسَني النوايا -والمأذون لهم حسب الأصول.
 
عندما يتخلف مجلس الأمن عن التصرف
 
6-28 لقد أبدينا بوضوحٍ زائدٍ وجهةَ نظرنا القائلة إن مجلس الأمن يجب أن يكون أول ميناء ترسو فيه السفينة في أي مسألة تتصل بالتدخل العسكري لأغراض الحماية البشرية. ولكن يبقى هناك سؤال حول ما إذا كان ينبغي أن يكون هو الميناء الأخير. وبالنظر إلى ما حدث في الماضي من عدم قدرة المجلس أو عدم رغبته في القيام بالدور المتوقع منه، وإذا رفض المجلس صراحةً اقتراحاً بالتدخل حين تكون المسائل الإنسانية أو مسائل حقوق الإنسان معرضة لخطر كبير أو تخلف المجلس عن معالجة مثل هذا الاقتراح في فترة زمنية معقولة، يصعب القول إن في الإمكان صرف النظر كلياًّ عن الوسائل البديلة للنهوض بمسؤولية الحماية. فما هي الخيارات في هذا الصدد؟
 
الجمعية العامة
 
6-29 من البدائل الممكنة بديل وجدنا له تأييداً كبيراً في عدد من مشاوراتنا وهو أن يُلتَمَسَ تأييد العمل العسكري من الجمعية العامة منعقدة في دورة استثنائية خاصة بموجب إجراءات “الاتحاد من أجل السلام” الراسخة الجذور. طُوِّرَت هذه الإجراءات في عام 1950 خصّيصاً لمعالجة الوضع الذي يتخلف فيه مجلس الأمن، بسبب عدم إجماع أعضائه الدائمين، عن ممارسة مسؤوليته الأساسية عن حفظ السلم والأمن الدوليين. ولما كانت السرعة في الغالب ذات أهمية قصوى جاء النَّصُّ على أن الدورة الاستثنائية الخاصة للجمعية العامة لا ينبغي فقط أن تنعقد في غضون أربع وعشرين ساعة من طلب انعقادها، وإنما يجب أيضاً، وفقاً للمادة 65 من نظامها الداخلي، “أن تجتمع في جلسة عامة فقط وتمضي مباشرة إلى النظر في بند جدول الأعمال المقترح عليها النظر فيه، الوارد في طلب عقد الدورة، دون إحالته أوَّلاً إلى المكتب أو إلى أي لجنة من لجانها الرئيسية.”
6-30 مع أن الجمعية العامة تفتقر إلى صلاحية الأمر باتخاذ إجراء ما، فإن قراراً تتخذه الجمعية العامة بتأييد إجراء ما وتؤيده أغلبية ساحقة من الدول الأعضاء يعطي درجةً عالية من الشرعية لتدخلٍ يتم في وقت لاحق ويشجع مجلس الأمن على إعادة النظر في موقفه. والصعوبة العملية في كل هذا هي التفكُّر في حقيقةِ تَمَكُّنِ أغلبية الثلثين، كما هو مطلوب بموجب إجراء الاتحاد من أجل السلام، من الاتفاق على مشروع في أية حالة -ما عدا الحالات الاستثنائية جداًّ -في بيئة سياسية لم تحصل فيها أغلبية في مجلس الأمن أو استخدم واحد أو أكثر من الأعضاء الدائمين حق الفيتو أو هددوا باستخدامه -وإن كان في تَصَوُّرِنا أنه كان يمكن أن تكون كوسوفو ورواندا حالتين من هذا القبيل. ومع ذلك، تعتقد اللجنة بأن مجرد إمكانية اتخاذ هذا الإجراء ستكون شكلاً إضافياًّ هاماًّ من أشكال الضغط على مجلس الأمن لتشجيعه التصرف تصرفاً حاسماً وملائماً.
 
المنظمات الإقليمية
 
6-31 ثمة إمكانية أخرى وهي أن يتم التدخل الجماعي من قبل منظمة إقليمية أو دون الإقليمية تتصرف ضمن حدودها المعينة. فكثير من الكوارث البشرية تترك آثاراً مباشرة كبيرة على البلدان المجاورة بأن تفيض عبر الحدود الوطنية على شكل تدفقات لاجئين أو استخدام مجموعات متمردين إقليمَ دولة مجاورة قاعدةً تنطلق منها. وهذه الدول المجاورة يكون لها في العادة مصلحة جماعية قوية، جزء منها فقط يكون مدفوعاً بدوافع إنسانية،  لمعالجة الكارثة بسرعة وفعالية. وقد اعتُرِفَ منذ زمن بعيد بأن الدولة المجاورة، عندما تتصرف في إطار منظمات إقليمية أو دون الإقليمية تكون في الغالب (وإن لم يكن دائماً) في موقع للتصرف أفضل من موقع الأمم المتحدة، وقد فُسِّرَت المادة 51 من الميثاق بأنها تعطي مرونة كبيرة في هذا الصدد.
6-32 فالمعروف بوجه العموم أن البلدان الواقعة في المنطقة الإقليمية أكثر حساسية للمسائل والسياق الكامنة وراء العناوين الرئيسية للصراع وأكثر معرفة بالجهات الفاعلة والشخصيات المشاركة في الصراع، ولديها مصلحة أكبر في الإشراف على عودة السلم والازدهار إلى نصابهما. ومن شأن هذا كله أن يسهِّلَ تعبئة الإرادة اللازمة للوفاء بمسؤولية الحماية وللاستدامة والمتابعة.
6-33 بعد كل ما سبق قوله، نرى أن المنظمات التي لديها عضوية إقليمية شاملة لم تُبدِ على وجه العموم حماساً ملحوظاً للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء. ويوجد دائماً اعتبار معوِّق هو الخوف من أن ينقلب نَمِر التدخل، عندما يطلق له العنان، على راكبه: فالمتدخل اليوم يمكن أن يكون موضوع التدخل غداً. والأغلبية العددية لأية منظمة جماعية تكون، بحكم التعريف تقريباً، مؤلفة من الدول الصغرى الأقل قوة، المتشككة في دوافع أقوى دولة بينها وتتردد في تأييد تدخل القوي في شؤون الضعفاء. غير أنه في إفريقيا، وإلى حد أقل في الأمريكتين، يوجد قبول لحق المنظمات الإقليمية ودون الإقليمية في اتخاذ إجراء، بما في ذلك الإجراء العسكري، ضد الدول الأعضاء في ظروف معينة. وقد أنشأت منظمة الوحدة الإفريقية آلية  لمنع وقوع الصراع وإدارته وحلِّه، وبذلك وسعت نطاق قدرتها على معالجة هذه الأوضاع.
6-34 ويكون الأمر أكثر جدليةً عندما تتصرف منظمة إقليمية لا ضد أحد أعضائها أو في منطقة أعضائها وإنما ضد دولة ليست عضواً فيها. كان هذا عاملاً كبيراً في انتقاد تدخل حلف شمال الأطلسي في كوسوفو لأنها تقع خارج منطقة الحلف. ومع ذلك يقول حلف شمال الأطلسي إن الصراع الدائر في كوسوفو يمكن أن يتدفق عبر حدود احلف ويسبب أعطالاً كبيرة ولذلك يثير قلقاً مباشراً للحلف. والمنظمات الإقليمية ودون الإقليمية الأخرى التي قامت بعمليات عسكرية تصرفت فقط داخل حدودها الجغرافية وضد واحد من أعضائها.
6-35 يعترف ميثاق الأمم المتحدة بأدوار شرعية للمنظمات الإقليمية والترتيبات الإقليمية بموجب الفصل الثامن. وإذا تحرينا الدقة ألفينا، كما لاحظنا سابقاً، أن نص الميثاق يقتضي أن يكون عمل المنظمات الإقليمية مرهوناً دائماً بإذن مسبق من مجلس الأمن. لكن، كما لاحظنا، كانت هناك حالات في الآونة الأخيرة طُلِبَت فيها الموافقة بعد الحدث  (ليبريا وسيراليون)، وربما يكون هناك متسع إلى حد ما للتصرف على هذا النحو في المستقبل.
 
آثار عدم التصرف
 
6-36 ليس من المبالغة القول إن التدخلات التي تقوم بها تحالفات خاصة (أو حتى دول منفردة، وهنا تكون المصيبة أكبر) دون موافقة مجلس الأمن أو الجمعية العامة، أو منظمة إقليمية أو دون الإقليمية يكون المستهدف فيها دولة من الدول الأعضاء، لا تجد تأييداً واسع النطاق. حتى البلدان التي شاركت في التدخل في كوسوفو، وأعدت للدفاع المستميت عن شرعيته بأن أشارت إلى كل معايير العتبة والمعايير الاحترازية التي عرَّفناها في هذا التقرير، تعترف إلى حدٍّ كبيرٍ بالطابع الاستثنائي جداًّ لهذا التدخل وتقول إنه كان أفضل بكثير لو حصلت على موافقة مجلس الأمن أو، في حالة عدم موافقته، على موافقة الجمعية العامة. وثمة رأي رائج إلى حدٍّ ما يقول إنه ربما أمكن الحصول على إذن بعد الحدث، في حالتي كوسوفو ورواندا، من النوع الذي حصل في التدخلات الإقليمية الإفريقية التي ذكرناها أعلاه، وربما يوفر هذا الخيار مخرجاً من المعضلة إذا حصلت حالة كهذه في المستقبل.
6-37 ترى اللجنة،كمسألةِ حقيقةٍ سياسية، أنه يستحيل التوصل إلى توافق في الرأي حول أية مجموعة من اقتراحات القيام بتدخل عسكري يعترف بصحة أي تدخل لم يأذن به مجلس الأمن أو الجمعية العامة. ولكن هذا ربما يترك ظروفاً يتخلف فيها مجلس الأمن عن الوفاء بما تعتبره هذه اللجنة مسؤوليته عن الحماية في وضع يهز الضمير ويستصرخ النجدة. إنها لمسألة حقيقية في هذه الظروف حيث يقع أشد الضرر: في الإضرار بالنظام الدولي إذا تم تجاوُزُ مجلس الأمن أو في الإضرار بذلك النظام إذا ذُبِحَ الناس ومجلس الأمن واقف وقفة المتفرج.
6-38 في رأي اللجنة هناك رسالتان هامتان لمجلس الأمن في كل هذا.
6-39 الرسالة الأولى هي أنه إنْ تخلَّف مجلس الأمن عن الوفاء بمسؤوليته في أوضاع تهز الضمير وتستصرخ النجدة فسيكون من غير المعقول أن نتوقع من الدول المعنية أن تستبعد استخدام وسائل أخرى أو اتخاذ أشكال أخرى من التدابير للتصدي لخطورة وإلحاح هذه الأوضاع. وإذا لم تأذن المنظمات الجماعية بتدخل جماعي ضد نظم الحكم التي تنتهك أبسط قواعد السلوك الحكومي الشرعي من المؤكد أن الضغوط للتدخل من قبل أحلاف خاصة أو دول فردية ستتعاظم. وهناك خطورة  من ألاّ يكونَ تنفيذُ هذه التدخلات، التي تتم دون  الضبط والقيود الملازمة لإذنٍ صادر عن الأمم المتحدة، قد تمَّ للأسباب الصحيحة أو بالالتزام الصحيح للمبادئ الاحترازية الضرورية.
6-40 والرسالة الثانية هي أنه إذا قام تحالف خاص أو دولة منفردة بتدخل عسكري بعد تخلُّفِ مجلس الأمن عن التصرف، وراعى التحالف أو الدولة مراعاةً تامةً واحترم كل المعايير التي عرَّفناها ونُفِّذَ هذا التدخل بنجاح -ونظر إليه الرأي العام العالمي على أنه نُفِّذَ بنجاح -فربما يكون لذلك آثار دائمة وخطيرة على مركز الأمم المتحدة نفسها وعلى مصداقيتها
 
7 – البعد التنفيذي
 
7-1 للتدخلات العسكرية لأغراض الحماية البشرية أهداف تختلف عن أهداف الحرب التقليدية وأهداف عمليات حفظ السلام التقليدية. ولذلك تثير هذه التدخلات عدداً من التحديات التنفيذية الجديدة المختلفة والفريدة. فلأن هدف التدخل العسكري هو حماية السكان لا هزيمة عدوٍّ عسكرياًّ والقضاء عليه، فهو يختلف عن القتال في حرب عادية. وبينما تتطلب عمليات التدخل العسكري استخدام ما يلزم من القوة لحماية السكان المعرضين للخطر، وهذا يستدعي أحياناً قدراً كبيراً من القوة، فإن هدفها الأساسي دائماً هو تحقيق نجاح سريع بأقل قدر ممكن من الخسائر في أرواح المدنيين، وإحداث أقل قدر ممكن من الضرر لتعزيز إمكانيات الانتعاش في مرحلة ما بعد الصراع. أما في الحرب التقليدية فالأمر مختلف، إذ غالباً ما يُستخدم تحييدُ القدراتِ العسكرية أو الصناعية للخصم أداةً لإرغامه على الاستسلام.
7-2 عمليات التدخل العسكري، من جهة أخرى – التي يجب أن تفعل كل ما يلزم للوفاء بمسؤولية الحماية -يجب أن تكون قادرة وراغبة في القيام بعمل أقوى بكثير مما تسمح به عمليات حفظ السلام التقليدية، حيث المهمة الرئيسية هي مراقبة وقف إطلاق النار واتفاقات السلام والإشراف عليها والتحقُّق منها، وحيث يكون التركيز دائماً على الموافقة والحياد وعدم استخدام القوة. وقد قام الفريق المعني بعمليات الأمم المتحدة للسلام في عام 2000 بتجميع مراجعة دقيقة للتحديات التنفيذية التي تواجه بعثات الأمم المتحدة العسكرية. لكن معظم تركيز ذلك الفريق كان على حفظ السلام التقليدي وتنوعاته، لا على استخدام القوات العسكرية استخداماً أقوى -لأسباب ليس أقلَّها أنه لا توجد في مقر الأمم المتحدة قدرة على التخطيط والدعم السَّوقي والقيادة والمراقبة، تمكِّن من القيام بأعمال قتال حربي أو تدخلات عسكرية ذات حجم كبير. وأكد تقرير الفريق أن “الأمم المتحدة لا تشن حرباً. وعندما يلزم اتخاذ تدابير إنفاذ كانت دائماً تعهد بذلك إلى تحالفات من الدول الراغبة.”
7-3 السياق الذي تجري فيه عمليات التدخل له أيضاً أهمية تنفيذية كبيرة. فالتدخل العسكري لحماية الأرواح المعرضة للخطر لا ينبغي أن يحدث ولن يحدث إلا كملجأ أخير، بعد فشل التدابير الأخرى في تحقيق نتائج مرضية. ومن الحتمي أن يكون التدخل جزءاً من استراتيجية سياسية أوسع موجهة نحو إقناع الدولة المستهدفة بالتعاون مع الجهود الدولية. وتوحي نتائج هذه العمليات أن الطبيعة المحددة لمهمة الحماية قد تؤدي، بمر الزمن، إلى تطور نوع جديد من العمليات العسكرية يُنفَّذُ بطرق جديدة.
 
العمليات الوقائية
 
7-4 توجد فئتان متميزتان من العمليات العسكرية الوقائية لكل منهما خصائصها المتميزة جداًّ عن الأخرى. الأولى هي “الانتشار الوقائي” الذي ينطوي على وضع قوات في مكان يظهر فيه تهديد بوقوع صراع، ويكون ذلك بموافقة الحكومة أو الحكومات المعنية، والغرض الأساسي منه هو ردع تفاقم الوضع وتحوُّلِهِ إلى صراع مسلح. ويكمن الردع لا في القدرة العسكرية للقوة وإنما في اهتمام مجلس الأمن كما يتجلى في إذنه بنشر القوات، ووضع الطرفين المعنيين تحت المراقبة الدولية الوثيقة، والرغبة الضمنية للمجتمع الدولي في اتخاذ تدابير أخرى إذا ما حدث لجوء إلى العنف.
7-5 المثال الرئيسي لهذا الانتشار هو قوة الأمم المتحدة للانتشار الوقائي في مقدونيا من عام 1992 حتى سحبها قبل الأوان في عام 1999. وبينما كان المقصد الرئيسي لهذا الانتشار هو ردع أي أعمال قتالية ممكنة من يوغوسلافيا، قيل -ربما بكثير من الفائدة المستمدة من التجربة -إن وجود القوة بعث أيضاً على استقرار الوضع الداخلي الهش في البلد. والمشاكل التنفيذية التي تواجه مثل هذا الانتشار هي أساساً نفس المشاكل التي تُصادَفُ في عمليات حفظ السلام التقليدية التي تقوم بها الأمم المتحدة.
7-6 الفئة الثانية من العمليات الوقائية هي أن تُنْشَرَ الموارد العسكرية دون تدخل فعلي في إقليم الدولة المستهدفة، وبناء على ذلك لا توجد مسألة موافقة. وربما يُقصد بهذه العمليات استعراض القوى لدعم مبادرات دبلوماسية أو ربما لتكون أدوات مراقبة أو تنفيذ تدابير قسرية غير عسكرية، كالجزاءات والحظر، في حالات من بينها أوضاع أزمات إنسانية. وتكون قواعد الاشتباك في هذه العمليات ذات طبيعة دفاعية بالدرجة الأولى، ولا يكون الاشتباك إلا بقدر محدود جداًّ، إذا حدث، يكفي لإرغام الخصم على الامتثال. ويمكن أن يكون العمل العسكري الوقائي، بهذا المعنى، هاماًّ في توفير جدارٍ واقٍ من الحريق محاولةً للمساعدة على منع صراع في بلد مجاور من الانتشار. وقد يساعد الانتشار القوي والحاسم على الردع عن وقوع اضطرابات، ولكنه يمكن أيضاً أن يوفِّرَ قدرة على الاستجابة السريعة إذا وقعت اضطرابات.
7-7 إذا فشلت الوقاية في أي من هاتين الفئتين فشلاً ذريعاً فقد تحتاج العملية الوقائية إلى التحول إلى أداة تدخل. ولذلك ينبغي نشر هذه القوات وتجهيزها لعمليات وقائية بطريقة تمكِّن بسهولة من تعيينها جزءاً من قوة تدخل.
 
التخطيط للتدخل العسكري
 
7-8 إذا أريد القيام بتدخل عسكري فإن التخطيط المسبق بعناية شرط أساسي للنجاح. فهناك تحديات كثيرة يجب التغلب عليها، بما في ذلك ضرورة إقامة تحالف سياسي فعال، وتوفير ولاية واضحة، وتصميم خطة عمليات مشتركة، وتعبئة الموارد اللازمة. ومن الأهمية بمكان ألاّ يغيب عن البال أن مرحلة التدخل عنصر واحد فقط من مجهود سياسي أوسع ويجب أن تعمل في انسجام مع هذه الأهداف الأوسع نطاقاً. وسوف تسبق مرحلةَ التدخل العسكري بالضرورة تدابيُر وقائيةٌ ربما تشمل هي نفسها تدابير عسكرية، كإنفاذ جزاءات أو حظر، مثلاً، أو عمليات انتشار وقائي، أو مناطق حظر طيران. ومن المرجح أن يتلو مرحلة التدخل العسكري عمليات لفترة ما بعد الصراع -سنناقشها فيما يلي أدناه -وهذه تحتوي في معظم الحالات على نشر قوات لحفظ السلام لفترات من الزمن ربما تكون طويلة. ولذلك يحتاج المفهوم التنفيذي لعملية الحماية اتخاذ ترتيبات للانتقال بيُسرٍ من جهود التدخل إلى أنشطة ما بعد التدخل.
 
إقامة تحالف
 
7-9 انطوت معظم التدخلات في الماضي، ويرجح أن تنطوي في المستقبل، على عمليات تحالف متعدد الدول. وتَماسُكُ التحالف المتدخل -سياسياًّ وعسكرياًّ -ضروريٌّ جداًّ لتحقيق النجاح، ولذلك كانت هشاشة التحالف المتدخل واحداً من أكثر الجوانب ضعفاً في التدخلات السابقة. ولوحظ أن العمليات التحالفية بالضرورة تتميز بالتدريج وربما بالتأخُّر في ضرب أهدافٍ حساسة، وهذه مساوئ عسكرية دائمة في العمليات التحالفية يعوِّضها جزئياًّ فقط الأثر السياسي الأقوى لهذه العمليات مقارنةً بالعمليات التي ينفذها بلد واحد بمفرده. وكان المفسدون دائماً جاهزون لمهاجمة وحدة التحالف مباشرة بغية تحييد الوجود الدولي أو دفعه إلى الانسحاب.
7-10 وفي بعض الأحيان أدى ضعف التحالف وفشله في إثبات سلطته وتوفير بيئة آمنة إلى إرسال بعثات إنفاذ موازية في منتصف العملية -مثال ذلك وصول قوة العمل الموحدة (يونيتاف) وسط عملية الأمم المتحدة الأولى في الصومال (يونوصوم-1)، وإدخال حلف شمال الأطلسي قدرة على الرد السريع والقصف من الجو وسط عمل قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة في يوغوسلافيا السابقة (أنبروفور)، وأخيراً تدخُّل الجيش البريطاني في سيراليون.
7-11 تعني إقامة التحالف الفعال خلق عزيمة سياسية مشتركة والمحافظة عليها، ووضع نهج عسكري مشترك. وينبغي لتدابير الإنفاذ التي تتخذها تحالفات الدول الراغبة أن تأخذ في الحسبان سياسات الدول الأعضاء وأثر وسائط الإعلام. فالسياسة دائماً تقتحم الجهود العسكرية ويزداد هذا الموقف شدة حين لا تكون العملية العسكرية مجهودَ حربٍ كلاسيكية. وقد بَيَّنَ تدخُّل حلف شمال الأطلسي في كوسوفو أن سرعة العلميات العسكرية وَحِدَّتَها قد تتأثر تأثُّراً كبيراً بالمضاعَف السياسي المشترك البسيط بين الدول الأعضاء. وعلاوة على ذلك، تستتبع الحربُ التحالفيةُ قيوداً أخرى على تصريف شؤون الحرب واتخاذ القرارات السياسية تكون ناتجة عن اختلاف التشريعات الوطنية.
7-12 حتى عندما تتوفر عزيمة سياسية مشتركة لدى الشركاء في التحالف يلزم مع ذلك وجود نهج عسكري مشترك. فالوضع الذي يوجد فيه وحدات عسكرية مختلفة تعمل كل منها مستقلة عن  الأخريات دون تنسيق بينها هو وضع متطرف جداًّ ويرجَّحُ أن تكون النتيجة الفشل. لكن حتى في التحالفات المنضبطة جيداًّ ربما تنشأ خلافات هامة تكون لها عواقب تنفيذية كبيرة. وقد حدثت خلافات في الماضي، مثلاً، ما إذا مكان ينبغي استبعاد بعض الخيارات العسكرية علناً أم لا (كاستخدام القوات البرية، مثلاً، ولنكتفِ بمثال واحد معروف جيداً). فاستبعاد خيارات عسكرية معينة أو استخدامها يمكن أن تكون له عواقب سياسية هامة أيضاً، وفي بعض الحالات ربما يعزز عزيمة الدولة المستهدفة على المقاومة.
 
الأهداف
 
7-13 يواجه الجهد الرامي إلى كسب تأييد واسع لعملية تدخُّل مشكلةَ وجودِ أفكارٍ مختلفة لدى الشركاء في التحالف حول الأهداف المراد تحقيقها من عملية التدخل. ففي الوضع المثالي يجب أن تكون عملية اتخاذ قرار بالتدخل وصياغة ولاية الجهة المتدخلة (أو مجموعة الجهات المتدخلة) وتوزيع هياكل ووسائل التنفيذ كلها مترابطة. لكن المواءمة بين آراء الدول ومصالحها المختلفة في كل جانب غالباً ما تكون عملية طويلة ومعقدة. وعلاوة على ذلك، تحتاج هيئات اتخاذ القرارات المتعددة الأطراف إلى توافق في الرأي لكي تنجح، ويكون الغموض والتزايُد، لا التحديد الواضح، هو النتيجة الحتمية لمداولات متعددة الأطراف تختفي فيها القيود على التدخل وحدودُهُ لضمان التوصُّل إلى اتفاق على الإذن بالتدخل.
7-14 وغالباً ما تَبْرُزُ اختلافات الأهداف في المناقشات حول “استراتيجية الخروج”، حيث يؤكد بعض الشركاء ضرورة معالجة المشاكل الكامنة بينما يركز آخرون على الانسحاب في أبكر وقت ممكن. ويصعب دائماً تقرير الطريقة التي سيتم فيها التدخل في النهاية. فيكاد يكون من المؤكد أن تظهر تحديات غير متوقعة وتكون النتائج دائماً تقريباً مختلفة عما كان متصوَّراً لها في البداية. يضاف إلى ذلك أن كثيراً من العمليات العسكرية تبدأ بأهداف بسيطة وواضحة إلى حد ما، ثم تتسع فتشمل محاولة تحقيق أهداف عسكرية وسياسية وإنمائية كلما تغيرت ظروف العمليات أو عندما تُعقَدُ اتفاقات سلام وصفقات جديدة. غير أن زحف المهام هو القاعدة لا الاستثناء. هذا الريب هو الذي يدفع بعض البلدان المتدخلة وأجهزتها العسكرية إلى تعيين استراتيجية الخروج بتحديد موعد اعتباطي للانسحاب.
الولاية
 
7-15 أول وأهم متطلبات عملية الحماية وجود ولاية واضحة وخالية من الغموض. وأياًّ كانت جودة أو سوء تعيين الحالة النهائية للتدخل، ينبغي للرؤية السياسية أن تشمل ما يلزم للوصول إلى هناك -من حيث المفهوم وكذلك من حيث الموارد. وبدون حسابات كهذه منذ البداية، توجد مشكلة في تعبئة “الإرادة السياسية” الكافية للمضي في التدخل حتى النهاية وإنهائه بنجاح. وفي أغلب الأحيان كانت هذه الرؤية محدودة بالالتزام بالتحقق والمراقبة وتقديم تقارير عن الظروف السائدة في منطقة البعثة. وعمليات السلام الشاملة والمتعددة الجوانب لا تقبل تركيزاً أدقَّ على ما هو ممكن أثناء مفاوضات بشأن وقف إطلاق النار والسلام. فهناك في التدخل مسائل كبيرة تتعلق بمنزلة البلد المتدخل، مما قد يؤدي إلى تردد بعض المساهمين المحتملين في دعم التحالف المكلف بولاية صعبة تنطوي على تحديات، وبخاصة حين لا يُرى أن الأمر ينطوي على مصالح حيوية.
7-16 ينبغي أن يكون هدف الولاية تمكين القائد العسكري المنفذ من تعيين مهمته ووظائفه على الوجه الصحيح واقتراح مفهوم تنفيذي يبشر بنجاح سريع، وهذا أمر غاية في الأهمية لعملية تهدف إلى حماية أشخاص يتعرضون لهجوم. فهذا يمكِّن القائد من اقتراح حجم القوات اللازمة وتركيبتها وصياغة مشاريع قواعد اشتباك وطلب الإذن السياسي وتخصيص الموارد اللازمة لشن العملية وتنفيذها .
7-17 تُعدَّلُ الولاية عادة بصورة تراكُمِيَّة كرد فعل لمتطلبات جديدة أثناء سير التدخل، وربما يكون هذا حتمياًّ بالنظر إلى الطبيعة الخاصة للتدخلات لأغراض الحماية البشرية، حيث يتوقف الكثير على موقف الدولة المستهدفة ومستوى التعاون الذي تقدمه. وبينما تعكس الولاية الأولى انشغالاً بالحماية البشرية، فإن الشواغل السياسية والأمنية هي التي تسود عاجلاً أو آجلاً. وكلما كانت الرؤية الأولى أكثر محدودية بالقياس إلى المشكلة الحقيقية التي يواجهها المتدخلون ازدادت احتمالات زحف المهمة. والصومال مثال واضح لذلك حيث لم يصاحب الاستجابة الأولى لانعدام الأمن وللمجاعة دعمٌ كافٍ أيضاً لتحقيق حلول طويلة الأجل. واشتملت عملية المتابعة التي قامت بها الأمم المتحدة (يونوصوم-2) على مهام أمنية وسياسية طموحة ولكن بدون وسائل كافية  لتحقيقها. غير أنه يجب أن تعرِّف الولاية بصريح العبارة ما هي مقاصد التدخل في مراحله المختلفة ويجب أن تبيِّنَ أن الحالة النهائية المرغوب في تحقيقها هي إعادة حسن الإدارة وسيادة القانون إلى نصابهما.
الموارد والالتزام
 
7-18 أي عملية حماية تنفذ استجابة لتهديد إنساني كبير أو حالة طوارئ إنسانية تتطلب من البلدان، وكذلك المنظمات الدولية المعنية، أن تكون على استعداد لدعم العملية بالموارد اللازمة. فتخصيص موارد كافية أمرٌ لا مناص من للنجاح، وكان عدم توفير الموارد الكافية مشكلة كبيرة في الماضي.
7-19 إن مستوى الموارد المخصصة للعملية يبعث رسالة واضحة عن عزيمة كل المعنيين ونيتهم. وفي حالة العمليات التي تقوم بها البلدان النامية، وبخاصة منظماتها الإقليمية، ربما تكون استدامة هذه العمليات مثار قلق كبير ومستمر. فبدون دعمٍ دوليٍّ أكبر قلَّ أن تجد بين الدول النامية دولة يرجح أن تكون في وضع يمكنها من عقد التزام عسكري طويل الأجل بالتدخل -وهذا ظرف يمكن أن يؤدي إلى سحب القوات قبل الأوان أي قبل تحقيق جميع الأهداف الهامة للحماية البشرية.
 
تنفيذ التدخل العسكري
هيكل القيادة
 
7-20 يقوم اتخاذ القرارات العسكرية على اتصالات وسلاسل قيادة واضحة لا لبس فيها، ووحدة القيادة ضرورية جداً لتسيير العمليات بنجاح. وأفضل طريقة لتحقيقها هي أن تكون هناك سلسلة واحدة لقيادة متكاملة، وأن تكون الدول مستعدة لنقل السلطة على القوات التي تساهم بها، إلى أبعد حدٍّ ممكن، إلى قائد القوة الذي تعينه للقيام بالتدخل. فالمصالح القومية المختلفة للدول المتدخلة واختلاف نظمها القانونية الناتج عن وجود قوانين وطنية مختلفة يرجَّحُ أن يسفر عن وجود بعض الحدود فيما يتعلق بدرجة وضع القوات تحت قيادة الضابط المكلف بتنفيذ عملية التدخل وفيما يتعلق باستخدام القوة الفتاكة. غير أنه كلما قلت التحفظات الوطنية على توظيف وحداتها الوطنية في عملية من هذا القبيل ازدادت قدرة قائد القوة على التصرف تصرفاً حاسماً ومرناً.
7-21 الرقابة السياسية الدقيقة على هذه العمليات أمرٌ إلزامي ولكن الرقابة السياسية لا تعني إدارة السلطات السياسية للعمليات العسكرية إدارة تفصيلية دقيقة. فالزعماء السياسيون يحتاجون إلى وضع أهداف واضحة لكل مرحلة في حدود معالم تنفيذية معرَّفةٍ. وعلى القادة العسكريين أن ينفذوا هذه الأهداف، ويطلبوا إرشادات أخرى عندما ينتهوا من تحقيق الأهداف أو عندما تظهر تحديات جديدة كبيرة.
العلاقات بين المدنيين والعسكريين
 
7-22 حيثما يلزم تدخل عسكري من المرجَّح أن تعمل القوات العسكرية المتدخلة، والسلطات السياسية (المحلية والخارجية)، والمنظمات الإنسانية جنباً إلى جنب لتقديم المساعدة وتوفير الحماية للسكان المعرضين للخطر. وكان الجمع بين القوات العسكرية الأكثر تنظيماً هرمياًّ وانضباطاً والثقافات الإنسانية الأكثر تفرُّقاً، على وجه الخصوص، مصدر توتر كبير في بعض الأحيان. ومن المرجح أن يظل تحسين التنسيق والتعاون بين القوات العسكرية والسلطات المدنية السياسية والوكالات الإنسانية مسألة ذات أهمية كبيرة.
7-23 عندما يبدأ الإنفاذ توجد عواقب إنسانية وخيارات صعبة ينبغي اتخاذها بشأن عمليات مبادلة قصيرة الأجل وطويلة الأجل. وحتى في أقل الظروف أمناً واستقراراً تبقى المنظمات الإنسانية المتفانية أطول فترة ممكنة. فبقاء موظفي لجنة الصليب الأحمر الدولية في كيغالي بعد أن خرج جنود الأمم المتحدة، وبقاء منظمات غير حكومية عديدة في سراييفو على الرغم من القناصة والهجمات بالصواريخ، يوحيان بالتزام المدنيين بتقديم المساعدة والحماية للسكان المحليين المنكوبين.
7-24 ومع ذلك عندما يريد العسكريون استخدام القوة الفتاكة ربما يجعلون من المستحيل على العاملين في المنظمات الإنسانية أن يبقوا في المكان. وربما يلزم في الأجل القصير أن تكون المساعدة الإنسانية قليلة لتحسين حالة الأمن وفي النهاية تحسين التدابير الإنسانية في الأجل الطويل. فقد أظهرت البوسنة، مثلاً، أن “الرفع والضرب” لا يتفقان مع استمرار العمليات الإنسانية. وكان القول نفسه سيصح لو أمكن بالفعل نزع سلاح مخيمات اللاجئين الكبيرة جداًّ التي يسيطر عليها مرتكبو الإبادة الجماعية في شرق زائير. ولو حصل ذلك لكان العاملون الخارجيون في المنظمات الإنسانية قد اضطُرّوا إلى الخروج من المخيمات أثناء  عمليات التصفية. فعمال المعونة (كما هو حال الصحافيين) يمكن أن يصبحوا  موضوعَ مقايضةٍ ورهائن.
7-25 التنسيق موضوع يثير القلق دائماً  ولكن يصعب تحقيقه بارتياح، لأن التنسيق ينطوي على محاولة سلطات مستقلة أن تتعاون بعضها مع بعض. وفي الغالب لا يتحول التنسيق إلى عملية متكاملة لاتخاذ القرارات على أساس منتظم، ولا إلى توحيد حقيقي للجهود. وبينما حسَّنت جهودُ التنسيقِ الفعاليةَ تحسيناً كبيراً في بعض الحالات، لم تزد في حالات أخرى على كونها محاولة لتقليل المنازعات على السيطرة.
قواعد الاشتباك
 
7-26 قواعد الاشتباك هامة جداًّ للاستجابة وحماية السكان المعرضين للخطر. فهي التعليمات التي توجه عمل الجنود في استخدام القوة في مسرح العمليات. ويجب أن تكون قواعد الاشتباك مناسبة للمفهوم التنفيذي وملائمة لنوع التدابير العسكرية المتوقعة.  فمن الواضح أن استخدام الحد الأدنى من القوة دفاعاً عن النفس، الذي تتميز به عمليات حفظ السلام التقليدية،  ليس مناسباً ولا كافياً لتدابير إنفاذ السلام، بما فيها التدخل العسكري. وأنشطة اعتقال المجرمين (في الشوارع أو مجرمي الحرب الموجهة إليهم اتهامات)، ووقف الاعتداءات، وردع القتلة المحتملين، والأشرار، تتطلب قواعد اشتباك واضحة وقوية. ومن شأن قواعد الاشتباك الدقيقة أن تساعد على تقليل حاجة البلدان المنفردة إلى إصدار توضيحات إضافية -لأن ذلك ربما يشكل عائقاً كبيراً أمام تسيير العمليات المتعددة الدول.
7-27 ينبغي لقواعد الاشتباك أيضاً أن تعكس مبدأ التناسب. ولا ينبغي في هذا السياق أن يستبعِدَ التناسُب خيار رفع مستوى العمليات حسب الاقتضاء، ولكنه ينبغي أن يؤدي إلى ضبط النفس في استخدام قوة الأسلحة الحديثة المدمرة. ولا ينبغي أيضاً أن يكون أثر التناسب شل القوات العسكرية الموجودة على الأرض، أو إيقاعها في مصيدة لا تُضطَرُّ فيها إلى الرد على الهجوم الذي تتعرض له وحرمانها من فرصة أخذ زمام المبادرة عندما تحتاج إلى ذلك.
7-28 في سياق التدخلات التي يُضطلَعُ بها لأغراض الحماية البشرية، يجب أن تعكس قواعد الاشتباك في التدخل العسكري التقيُّد الدقيق بالقانون الدولي، والقانون الإنساني الدولي على وجه الخصوص. ويجب أن تحتوي على اعتراف بأنه لا يجوز استخدام أنواع معينة من الأسلحة، وبخاصة الأسلحة المحظورة بموجب اتفاقات دولية.
7-29 لا يوجد إجراء تأديبي موحد للجنود الدوليين الذين ينتهكون القواعد الدولية. وإنما يُترَك الأمر في أغلبه إلى الدول المساهمة بقوات لتحاكم جنودها، بما في ذلك المحاكمة على سلوكهم تجاه السكان المدنيين في مكان العمليات. ويجب أن تحرص الدول المتدخلة على وضع قواعد سلوك لضمان العدالة والمساءلة في ممارسة هذه المسؤوليات لكيلا تشوه سمعة القوة المتدخلة في عيون السكان المحليين وتقوض محاولات المدنيين إقامة سيادة القانون. ويجب أن تكون المعايير التي تحددها قواعد السلوك هذه عالية  ويجب إبعاد من لا يَرْقَوْنَ إلى مستواها.
 
استخدام القوة
 
7-30 أفضل طريقة لتحقيق النجاح العاجل في العمليات العسكرية هي المفاجأة واستخدام قوة هائلة وتركيز كل الجهود العسكرية. غير أنه لوحظ أنه يكاد يكون من المستحيل، في سياق التدخل لأغراض الحماية البشرية، الاعتماد على السِّـرِّيَّةِ والمفاجأة أو استخدام القدرة الكاملة والمدمرة للأسلحة الحديثة إلى أقصى حدود الاستخدام. ويجب الموازنة بين تحقيق المفاجأة على المستوى الاستراتيجي وبين قيمة محاولة إقناع الدولة المستهدفة والحاجة إلى إقناعها بالامتثال قبل اللجوء إلى القوة. وعلاوة على ذلك لن تسكت المجتمعات الديمقراطية الحساسة لحقوق الإنسان وسيادة القانون طويلاً على الإفراط في استخدام القوة العسكرية الساحقة.
7-31 يود المخططون العسكريون أن يعوضوا عن خيار المفاجأة الاستراتيجية المفقود باللجوء إلى الاستخدام المركَّز للقوة العسكرية الموضوعة تحت تصرفهم. وربما تسمح الظروف السياسية والأحوال السائدة على الأرض بذلك وربما لا تسمح به. وثمة عاملٌ حرج يؤثر في كثافة العمليات، وهو الحاجة إلى تعاون السكان المدنيين حالما يتحقق الهدف المباشر المتمثل في وقف القتل أو التطهير العرقي. وهذا يعني أولاً وقبل كل شيء عدم القيام بعمليات عسكرية من شأنها أن تثير كراهية واسعة النطاق للدول المتدخلة.  وربما يكون من المستحيل أن تكسب عقول الناس الواقعين تحت الهجوم وقلوبهم أثناء ذلك الهجوم، ولكن يجب التخطيط بطريقة لا تغلق كل الأبواب عندما ينتهي الصراع المسلح. وهذا يعني قبول حدود واستخدام ضبط النفس لبيان أن العملية ليست حرباً لهزيمة دولة، وإنما هي عملية لحماية سكان في تلك الدولة من المضايقات أو الاضطهاد أو القتل. ويعني أخذُ هذه الاعتبارات في الحسبان القبولَ بشيء من التزايُد بقدر ما يتعلق الأمر بكثافة العمليات، وشيء من التدرُّج فيما يتعلق بمراحل العملية واختيار الأهداف. وربما يكون هذا النهج أيضاً هو الطريقة الوحيدة لإبقاء التحالف العسكري قائماً. ومع أن هذا انتهاك واضح للمبادئ التي تنظم العمليات الحربية ينبغي ألا يغيب عن البال أن عمليات الحماية ليست عمليات حرب.
7-32 للتعويض إلى حدٍّ ما عن هذه النواقص يجب أن تكون مراحل تخطيط التدخل مركَّزة بوجه خاص لتعزيز الرأي الذي أبديناه في بداية هذا الفصل. ويجب الحرص على توفير موارد تناسب الأهداف وتعيين نقاط الضغط السياسي والعسكري الرئيسية واستهدافها. وينبغي تخطيط أدوار العناصر غير العسكرية وأخذها في الحسبان. وينبغي دراسة احتمالات الطوارئ التي يمكن أن تحدث ووضع خطط احتياطية لها.
 
الخسائر البشرية
 
7-33 كانت المصلحة العسكرية هي التي تُحدِّدُ طرائق استخدام القوة مبادرةً، في الغالب، أكثر مما يحددها الشعور بالمسؤولية عن حماية المصالح الإنسانية. ففي البوسنة، مثلاً، استخدم الداعون إلى التدخل العسكري جدوى التدخل -بمعنى استخدام الغارات الجوية دون التسبب في وقوع خسائر بشرية في القوة المتدخلة -باعتبارها حجتهم الرئيسية، ولم يستخدموا الالتزام الأدبي أو القانوني أو التنفيذي. وندر أن يعترفوا بالمخاطر الكبيرة التي تتعرض لها القوة المتدخلة والمرتبطة بالتدخل الفعلي. وكان السؤال الحقيقي في النهاية هو ما إذا كان الغرب مستعداً للمغامرة بأرواح جنوده لوقف جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان والهجرة القسرية.
7-34 حماية القوة المتدخلة مسألة هامة، ولكن لا ينبغي أبداً أن تصبح هي الهدف الرئيسي. وعندما تصبح حماية القوة هي الشاغل الرئيسي قد يكون الانسحاب -وربما تتبعه مبادرة جديدة أقوى -أفضل طريق.
 
العلاقات مع وسائط الإعلام
 
7-35 وجود وسائط الإعلام في كل مكان وتغطية العمليات العسكرية في لحظة حدوثها ونشر أنبائها في العالم أجمع يعرضان كل من يفرط في استخدام القوة العسكرية الساحقة للنقد في كل أنحاء العالم. واستخدام القوة العسكرية على هذا النحو في غير عمليات الدفاع عن النفس يقلل مقدار التأييد الشعبي للعمليات العسكرية الذي تزداد الحاجة إليه كلما قَلَّ فهمُ رجل الشارع العادي للأسباب التي دفعت حكومته إلى التدخل.
7-36 للاتصالات الحديثة وتغطية وسائط الإعلام أيضاً تأثير في إنفاذ القوانين من حيث أن لدى الجمهور الآن قدرة جديدة على مراقبة أثر العمليات العسكرية على المدنيين. ويُرجًَّحُ أن ينال الإنفاذ تأييداً شعبياًّ واسع النطاق إذ استُخدِمَت القوة الفتاكة بطريقة يمكن على الأقل أن يتغاضى عنها أغلب السكان في بلدان التحالف، إن لم يوافقوا عليها. فتغطية وسائط الإعلام لمعاناة المدنيين نتيجة للجزاءات المفروضة على العراق أو القصف الجوي في الصرب عناصر جديدة في تقرير الاستراتيجيات العسكرية وكذلك السياسية.
7-37 لذلك ينبغي أن يشمل التخطيط لتنفيذ عملية الحماية مفهوماً فرعياًّ للإعلام الجماهيري يكون مفصَّلاً إلى حد ما. فتنظيم حملة إعلامية مناسبة تنظيماً صحيحاً ضروريٌّ لا للمحافظة على تأييد الرأي العام للتدخل فحسب، وإنما أيضاً للمحافظة على تماسُك التحالف. والصعوبة في تصميم هذا المفهوم هي كيفية التوفيق بين متطلبات الإعلام الدقيق الشامل السريع وضرورات أمن العملية. فتماسك التحالف المتدخل والرغبة في إضعاف التأييد الذي يلقاه الزعيم المعارض من شعبه أو من حلفائه، قدر الإمكان، أمرٌ غايةٌ في الأهمية. وما من شكٍّ في هذه الظروف، خلافاً لظروف الحرب أو عملية الإنفاذ، أن الإعلام يُعطى أولويةً على أمن العملية، وإن كان ذلك يقلل فرص تحقيق المفاجآت.
 
متابعة التدخل العسكري
نقل السلطة
 
7-38 المهمة الرئيسية للقوة العسكرية في عمليات ما بعد التدخل هي توفير البيئة الآمنة اللازمة لإعادة حسن الإدارة وسيادة القانون إلى نصابهما. وبالإضافة إلى ذلك ربما يلزم أن تساعد القوات العسكرية في الإعمار في المناطق التي يكون دخول غير العسكريين إليها محفوفاً بالخطر. ويعني تسيير هذه العمليات في الغالب أن القوات ستضطر بصورة متزايدة إلى القيام بالمهام التي تقوم بها الشرطة في الأحوال العادية، على الأقل في البداية. وينبغي، علاوة على ذلك، أن تكون القوات مستعدة لفرض الامتثال بالقوة وكذلك الدفاع عن البلد عند الضرورة.
7-39 هذه المهام أكثر تعقيداً من العمليات العسكرية وتشمل سلسلة أوسع مما تشمله تلك العمليات في العادة. وسوف يزداد طمس معالم سلسلة القيادة لأن السلطات المدنية في الغالب تتولى القيادة على الأرض. وتدعو الحاجة إلى تحديد المسؤوليات تحديداً واضحاً جداًّ وإلى نقل المسؤولية من السلطات العسكرية إلى السلطات المدنية في أسرع وقت ممكن بعد توقُّف أعمال القتال. وإن كانت الضرورة ربما تدعو إلى تسلُّم القائد العسكري السلطة الإدارية الكاملة لفترة قصيرة بعد انتهاء أعمال القتال مباشرة، يجب نقلُها إلى السلطة المدنية بأقل تأخير ممكن. والطريقة المعتادة لذلك هي أن تعين الأمم المتحدة  ممثلاً خاصاًّ للأمين العام ونقل السلطة العسكرية إلى ذلك الممثل الخاص، وأن تُعاد السلطة المحلية الكاملة إلى نصابها بعد الانتخابات وانسحاب القوات العسكرية الأجنبية.
 
حفظ السلام وبناء السلام
 
7-40 تعني متابعة التدخل حتى نهايته أن الجانب المتدخل يجب أن يكون مستعداًّ للبقاء عاملاً أثناء فترة ما بعد التدخل طوال الفترة اللازمة لتحقيق الاستقرار القائم بذاته. فالأحلاف والدول تتصرف تصرُّفاً خالياً من المسؤولية إذا تدخلت دون أن تكون لديها النية في إعادة السلم والاستقرار إلى نصابهما ودعم عملية ما بعد التدخل طوال  الفترة اللازمة.
7-41 تبين الخبرة السابقة أنه إذا لم يُعالَج التحدي الأمني الداخلي معالجة مبكرة فإن العادات والهياكل “القديمة” سوف تسود وتقوِّضُ الجهودَ الأخرى الرامية إلى بناء السلام بعد الصراع. فالعواقب المباشرة لأي حرب أهلية تولِّدُ الجريمةَ المنظمة والهجمات الانتقامية وانتشار الأسلحة والنهب والسرقة. فضباط الشرطة المدنية التابعون للأمم المتحدة الذين ينتشرون إلى جانب قوات حفظ السلام، للمساعدة على إحياء وكالات إنفاذ القوانين الوطنية، ليسوا مجهَّزين لمعالجة مسألة إنفاذ القوانين في بيئة “اللاجريمة واللاحرب”. وظل العسكريون هم الأداة الحيوية الوحيدة وإن كان يطمس هذه الحقيقةً مفهومُ السلام باعتباره نقيضاً للحرب.
 
خمس مهام حماية
 
7-42 يجدر بنا هنا أن نسلط الضوء على خمسة أنواع متميزة تحليلياًّ من مهام الحماية برزت من هذه الخبرات اللاحقة لعمليات إنفاذ القوانين. المهمة الأولى هي حماية الأقليات. هذا التحدي التنفيذي يكون غاية في الأهمية عندما يعود المدنيون إلى الأقاليم التي تشكل مجموعةٌ إثنيةٌ أخرى غالبيةَ سكانها. ورأينا في البلقان أمثلة عديدة على الصعوبات ويثبتها العدد القليل نسبياًّ من اللاجئين والمشردين في الداخل الذين عادوا إلى بيوتهم.
7-43 المهمة الكبيرة الثانية للحماية هي إصلاح قطاع الأمن. كان محور تركيز هذه المهام مساعدة السلطات المحلية في عمليتها هي نفسها لتحويل قطاع الأمن. وقد سعت الجهات المانحة، الثنائية منها والمتعددة الأطراف على السواء، إلى التأثير في اتجاه التغيير، وإلى إنشاء ممارسات جيدة، وإلى نقل المعرفة وخبايا الأمور إلى السلطات الجديدة. وقد تبدَّت أهمية وصعوبة هذه الجهود الرامية إلى تجنيد وتدريب أفراد شرطة محليين وإصلاح نظامي الجزاء والقضاء في بلدان متنوعة، من هايتي إلى رواندا فإلى تيمور الشرقية. وتكون المشاكل غاية في الصعوبة في الأوضاع التي يكون فيها كثيرٌ من الأشخاص المدرَّبين قد قُتِلوا أو فرّوا لتجنُّب العنف.
7-44 يوجد في هذا الصدد تحدٍّ مؤقَّت يتعلق باستخدام الشرطة المدنية. والواقع أن عدد أفراد الشرطة الآن يأتي في الدرجة الثانية بعد الجنود في عمليات الأمم المتحدة. وفي ضوء الصراعات التي تنشأ بعد الحرب والحاجة إلى الحياد، من المرجح أن تظل الحاجة إلى عمليات شرطة مدنية لمعالجة الصراعات التي تظهر في داخل الدولة ذات أولوية عالية لمساعدة المجتمعات التي مزقتها الحرب على استعادة أحوال الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وتشكل صعوبة تجنيد أفراد شرطة دولية قيداً كبيراً وخطيراً، لا سيما في ضوء الحاجة إلى إصلاح قوات الشرطة المحلية وإعادة تشكيل هيكلها، بالإضافة إلى تقديم النصح لأفراد الشرطة المجندين حديثاً وتدريبهم ومراقبتهم.
7-45 المهمة الرئيسية الثالثة هي نزع السلاح وتسريح المقاتلين وإعادة دمجهم في المجتمع. ومع أن إعادة الدمج هي مفتاح بناء السلام في الأجل الطويل، واستئناف مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية في نهاية المطاف، فإن التركيز ينصَبُّ هنا على الأمن وحماية المدنيين. وكان مفتاح الاستقرار دائماً، كما انعكس في قرارات مجلس الأمن والولايات المنوطة ببعثات الأمم المتحدة، هو تسريح المقاتلين السابقين. وكان الغرض غير المعلن من تدابير تحقيق الاستقرار هو الاستيلاء على القوة ووسائل العنف من أيدي الميليشيات وأسياد الحرب وإعادة تركيزها على مستوى أعلى بكثير. أي أن نجاح عملية التدخل كلها، بعبارة أخرى، يتوقف على مدى القدرة على نزع سلاح الأطراف المتحاربة نزعاً فعالاً. غير أن تنفيذ نزع السلاح كان أصعب المهام. فكان غايةً في الصعوبة أن تجمع كل الأسلحة، حتى في نهاية صراع مسلح، حين تخلق أحوال انعدام الأمن السائدة حوافز كبيرة لدى المجتمع بأسره للمحافظة على الأسلحة الخفيفة والصغيرة وشرائها. وأذكت احتياجات الأمن الشخصي والاحتياجات الاقتصادية نار تجارة الأسلحة الصغيرة لفترة طويلة بعد انسحاب القوات المتدخلة.
7-46 كانت جميع الالتزامات بنزع السلاح في عمليات السلام، على الأقل في البداية، تميل إلى أن تقوم على الرضى -سواء أكان نشر القوات الخارجية يتمُّ بموجب الفصل السادس أو الفصل السابع من الميثاق. غير أن فكرة نزع السلاح طواعيةً سرعان ما تتحداها مسائلُ مثل الأمن والمعيشة الاقتصادية للمقاتلين الذين يفكرون في تسليم أسلحتهم إلى جانب قلة عدد القوات الداعمة للسلام، التي يكون عددها في العادة غير كافٍ. وعندما كانت قوات التدخل تواجَهُ بعدم امتثال أحكام نزع السلاح الواردة في ولايتها، تَرُدُّ بإحدى طريقتين رئيسيتين: الأولى السكوت الدولي على عناد السكان المحليين مع تغيير في مهام ولاية البعثة يمكِّن من المضي قُدُماً في “عملية السلام” بغض النظر عن ذلك. وكان النهج الثاني ممارسة قسرٍ محدودٍ على الأطراف المعاندة مع محاولة المحافظة على الطابع الطوعي للتدخل على المستوى الاستراتيجي.
7-47 تعطينا كمبوديا وأنغولا مثالين كلاسيكيين لنهج الرضى، بينما الصومال -إلى حدٍّ ما -والبوسنة مثالان على محاولة القسر. وتميزت العمليات الإقليمية وعمليات الأمم المتحدة في غرب إفريقيا بمزيج محيِّر من القسر والطوع، بينما كان النهج المتبع إزاء نزع السلاح والتحديات الأمنية في رواندا لا يخضع لمنطق. غير أنه لا يمكن لأي من هذه الأمثلة أن يعطينا استنتاجاً قاطعاًّ بشأن قدرة القوات العسكرية المتدخلة على تحسين حماية المدنيين المعرضين للخطر بتقليل الأسلحة المتاحة للمحليين من جنود وميليشيات وعصابات. والواقع أن حالتي الصومال وسريبرينيتسا دلَّتا على أنه إذا لم يكن هذا ممكناً فقد يكون من الأفضل ألا تحاول جمع السلاح أبداً. ولم تُعطَ قوات التدخل التي لديها ولاية لنزع السلاح حرية العمل بحسن تقديرها المذهبي والسياسي والعسكري على اتباع استراتيجية قسرية.
7-48 المهمة الرابعة للحماية، التي أصبحت، مع تزايُد الطابع العالمي لاتفاقية أوتاوا المعنية بالألغام الأرضية، عنصراً مشتركاً بصورة أكبر في ولايات البعثات العاملة بعد التدخل وهو: مكافحة الألغام. وهذا يعني سلسلة من الأنشطة من تعيين حقول الألغام المضادة للأفراد المعروفة والمشتبه بها، وإجراء عمليات المسح على المستوى الأول، إلى إزالة الألغام لأغراض إنسانية ومساعدة الضحايا. وقد أثبت إنشاء دائرة الأعمال المتعلقة بالألغام في الأمم المتحدة، ومركز جنيف الدولي لإزالة الألغام لأغراض إنسانية، والشبكة المتنامية من المراكز الوطنية للأعمال المتعلقة بالألغام أنها نموذج ناجح للعمل المنسق في مجال الألغام الذي تقوم به الجهات المانحة لمساعدة البلدان المنكوبة بالألغام. وبيَّنَت التجارب الحديثة في عمليات مثل إثيوبيا/إريتريا وكمبوديا وكوسوفو أن التنسيق المبكر للتدريب على معرفة الألغام (الذي تقدمه في الغالب قوات عسكرية) -مع جهود وضع علامات على حقول الألغام ورسم خرائط لها وإزالتها (التي تقدمها هي أيضاً نفس القوات في الغالب) -وما يتبعها من عودة اللاجئين والمشردين في الداخل، المخططة جيداً، أسفرت عن تقليل عدد القتلى والمصابين بانفجارات الألغام عما كان يُخشى. ويُعترَفُ الآن بالأعمال المتعلقة بالألغام المدمجة في عمليات السلام بعد الصراع عنصر أساسي في الجهود الفعالة للإعمار والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي المستدام.
7-49 المهمة الأمنية الخامسة أثناء المرحلة الانتقالية تتصل بملاحقة مجرمي الحرب. لقد سبق تحليل تفاصيل الإجراءات المستمرة ضد المجرمين في يوغوسلافيا السابقة ورواندا. وما يجدر ذكره هنا هو الطلب الجديد على القوات العسكرية وقوات الشرطة الذي يمكن أن يحدث أثناء تدابير الإنفاذ وما بعدها ولا سيما عند تشكيل المحكمة الجنائية الدولية. وقد كان القادة العسكريون والسياسيون في حلف شمال الأطلسي مترددين في ملاحقة واعتقال مجرمي الحرب الذين وجهت إليهم تهم رسمية خوفاً مما يمكن أن يحدث من قتال وردود فعلٍ عنيفة من جانب السكان المحليين. ومع أن بعض المجرمين الذين وجِّهت إليهم تُهَمٌ في البلقان ما زالوا مختبئين أو مسموحاً لهم بأن يعيشوا حياتهم في العلن، من المرجح أن يزداد هذا التحدي التنفيذي الجديد.
 
عقيدةٌ لعمليات الحماية البشرية
 
7-50 تعني مسؤولية الحماية، بإيجاز، أن عمليات الحماية البشرية ستكون مختلفة عن المفاهيم التنفيذية التقليدية لشن حرب ولعمليات حفظ السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة. وبناءً على ذلك، من المستصوب تجسيد المبادئ المبيَّنة في هذا الفصل والإرشاد الموجود في الفصل الرابع معاً في “عقيدة لعمليات الحماية البشرية”. وتوصي اللجنة الأمين العام للأمم المتحدة باتخاذ خطوات للشروع في وضع مثل هذه العقيدة. وهي ستبدأ من النظرية الأساسية لهذا التقرير القائلة إن أي تدخُّلٍ قسري لأغراض الحماية البشرية ما هو إلا عنصرٌ واحد في سلسلة متصلة تبدأ بالجهود الوقائية وتنتهي بالمسؤولية عن  الإعمار لكي يعادَ احترام حياة الإنسان وسيادة القانون إلى نصابهما.
7-51 ينبغي أن تقوم العقيدة، بوضوحٍ، على المبادئ التالية:
• يجب أن تقوم العملية على أساس هدفٍ سياسيٍّ معرَّفٍ تعريفاً دقيقاً ومُعْرَبٍ عنه بولاية واضحة لا مراء فيها، وبمواردَ وقواعد اشتباكٍ مكافئة؛
• يجب أن يكون التدخل تحت الرقابة السياسية بينما ينفذه قائد عسكري لديه سلطة القيادة إلى أبعد حدٍّ ممكن، ويكون تحت تصرفه موارد كافية لأداء مهمته، وتكون هناك سلسلة قيادة واحدة تعكس وحدة القيادة والغرض؛
• هدف عملية الحماية البشرية هو فرض الامتثال لحقوق الإنسان وسيادة القانون في أسرع وقت ممكن وفي أشمل صورة ممكنة، لكنه ليس هزيمة دولة. ويجب أن ينعكس هذا على الوجه الصحيح في استخدام القوة: ويجب قبول الحدود الموضوعة لاستخدام القوة، مع وضع زيادات وتدرُّجات في العملية تُصمَّم بحسب حاجة هدف الحماية؛
• يجب أن يضمن سير العملية الحماية القُصوى لجميع عناصر السكان المدنيين؛
• يجب ضمان الامتثال التام للقانون الإنساني الدولي؛
• يجب ألا يكون لحماية القوة المتدخلة أبداً أولوية على عزيمة إنجاز المهمة؛
• يجب أن يكون هناك أقصى حد ممكن من التنسيق بين السلطات العسكرية والمدنية والمنظمات.
8 – مسؤولية الحماية: الطريق إلى الأمام
 
من التحليل إلى العمل
 
8-1 كان هذا تقريراً عن حاجة إنسانية ملحة، وعن سكان معرضين لخطر مذبحة، وتطهير عرقي، ومجاعة. كان تقريراً عن مسؤولية الدول ذات السيادة عن حماية سكانها من هذا الأذى -وعن الحاجة إلى ممارسة المجتمع الدولي الأكبر تلك المسؤولية إذا كانت الدول غير راغبة أو غير قادرة على القيام بذلك هي نفسها.
8-2 كانت المناقشات السابقة بشأن التدخل تميل إلى السير كما لو كان التدخل وسيادة الدول مفهومين متناقضين أصلاً ولا يمكن التوفيق بينهما -بحيث يكون تأييد أحدهما بالضرورة على حساب الآخر. لكن هذه اللجنة وجدت في سياق المناقشات التي أجريناها توتُّراً أقل بين هذين المبدأين مما كنا نتوقع. وجدنا رغبة عامة في قبول فكرة أن مسؤولية الدولة عن حماية مواطنيها من القتل وأنواع الأذى الخطير الأخرى هي أبسطُ المسؤوليات التي تمليها السيادة قاطبةً وأكثرُها أساسيةً -وانه إذا كانت الدولة لا تستطيع أو لا ترغب في حماية سكانها من مثل هذا الأذى فإن التدخل القسري لأغراض الحماية البشرية، بما في ذلك التدخل العسكري في نهاية المطاف، من قبل أعضاء آخرين في المجتمع الدولي قد يكون له ما يبرره في حالات الشِّدَّة. وبعبارة أخرى، وجدنا تأييداً كبيراًّ للمبدأ الأساسي المعرَّف في هذا التقرير، وهو فكرة مسؤولية الحماية.
8-3 كانت أقوى التعبيرات عن القلق التي سمعتها اللجنة خلال سنة من المشاورات في مختلف أنحاء العالم تتعلق أساساً بالعواقب السياسية والتنفيذية للتوفيق بين مبدأ المسؤولية المشتركة ومبدأ عدم التدخل. وكانت دواعي القلق هذه من ثلاثة أنواع مختلفة. ويمكن وصفها على التوالي بأنها قلقٌ على العملية، وعلى الأولويات، وعلى الإنجاز، وقلق شامل لكل القطاعات، وهو القلق على التقدير الكفء لضرورة العمل.
8-4 فيما يتعلق بالعملية، كان الهمُّ الرئيسيُّ، عندما يُتَّخذ إجراء حماية، وبوجه خاص عندما يحدث تدخل عسكري لأغراض الحماية البشرية، ضمانُ أنْ يتم ذلك بطريقة تعزز المسؤولية الجماعية للمجتمع الدولي عن معالجة هذه القضايا بدلاً من إعطاء الفرص والأعذار للقيام بعمل فردي من جانب واحد. وقد سعت اللجنة إلى معالجة هذه الهموم بالتركيز قبل كل شيء على الدور الرئيسي لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عن اتخاذ ما يلزم من إجراءات. وقدمنا بعض الاقتراحات بشأن ما ينبغي أن يحدث إذا لم يتصرف مجلس الأمن، ولكن المهمة، كما رأيناها، لم تكن إيجاد بدائل لمجلس الأمن كمصدر للسلطة، وإنما لجعل المجلس يعمل أفضل كثيراً مما فعله حتى الآن.
8-5 وفيما يتعلق بالأولويات، كان الهم الرئيسي هو أن رسم السياسة في المناقشات السابقة كان يركز تركيزاً بالغاً على رد الفعل تجاه الكارثة -وعلى وجه الخصوص رد الفعل بتدخل عسكري -بدلاً من محاولة ضمان ألاّ يحدث التدخل بادئ الأمر. حاولت اللجنة أن تصحح اختلال التوازن هذا بأن أكدت مراراً وتكراراً  الأهمية الأصيلة للوقاية في مناقشة التدخل، وأيضاً ببيان الحاجة إلى تركيز كبير على قضايا بناء السلام بعد انتهاء الصراع عندما يحدث تدخل عسكري. وقلنا إن مسؤولية الحماية تشمل لا مسؤولية القيام برد فعلٍ فحسب، وإنما مسؤولية الوقاية ومسؤولية إعادة البناء أيضاً.
8-6 وفيما يتعلق بالإنجاز، هناك وجدنا أوسع الهموم انتشاراً. فقد مرت مناسبات كثيرة جداًّ خلال العقد المنصرم قصَّر فيها مجلس الأمن، حين واجه أوضاعاً تهز الضمير، عن الاستجابة كما ينبغي بإصدار الإذن وتقديم الدعم في حينه. وبينت الأحداث التي وقعت في التسعينات في مناسبات عديدة جداًّ أنه حتى اتخاذ مجلس الأمن قراراً يأذن فيه باتخاذ تدابير دولية لمعالجة أوضاع تشكل هموماً عصيبة للإنسانية لم يكن ضماناً لاتخاذ أي تدابير أو لاتخاذها بصورة فعالة. وكانت اللجنة على وعي بضرورة  تصحيح الاستجابات التنفيذية، وكُرِّسَ جزء من تقريرنا هذا لتحديد المبادئ والقواعد التي يجب أن تنظم التدخلات العسكرية لأغراض الحماية البشرية.
8-7 لكن الأهمَّ حتى من ذلك هو تصحيح الالتزام السياسي الضروري، وهذه هي المسألة التي نركز عليها في هذا الفصل. وتبقى المسألة أنه ما لم تتوفر الإرادة السياسية للعمل حين يكون العمل لازماً تبقى المناقشة الدائرة حول التدخل لأغراض الحماية البشرية مناقشةً أكاديميةً إلى حدٍّ كبير. وأكثر المهام إلحاحاً الآن هي العمل على ضمان أنه عندما يُوَجَّهُ النداء إلى مجتمع الدول للعمل يلقى هذا النداء آذاناً صاغية تستجيب له. يجب ألا يحدث قتل جماعي أو تطهير عرقي مرة ثانية. يجب ألا تحدث رواندا أخرى.
 
تعبئة الإرادة السياسية الداخلية
 
8-8 مفتاح باب تعبئة التأييد الدولي هو تعبئة التأييد الداخلي أو على الأقل تحييد المعارضة الداخلية. فالطريقةُ التي يستقبل بها الناسُ في الداخل القضيةَ -ومقدارُ التأييد أو المعارضة لقرار معين بالتدخل، نظراً إلى كبر حجم التكاليف البشرية والتكاليف المادية التي يمكن أن ينطوي عليها ذلك، والموارد الداخلية التي قد تدعو الحاجة إلى تخصيصها له -كانت دائماً عاملاً في اتخاذ القرار الدولي، وإن مدى تأثير القرار الداخلي يتفاوت تفاوتاً كبيراً من بلد إلى آخر ومن حالة إلى أخرى.
8-9 العواملُ السياقية، كحجم البلد المعني وقوته وجغرافيته وطبيعة مؤسساته السياسية وثقافته، كلُّها عوامل هامة في هذا الصدد. فبعض البلدان ذات سجية أكثر دولية وبطبيعتها أكثر ميلاً من غيرها إلى الاستجابة للنداءات من أجل التعاون المتعدد الأطراف: والحقيقة أن الدول الكبرى لا تميل أبداً إلى الاهتمام بالعمل المتعدد الأطراف ميل الدول المتوسطة الحجم والصغيرة، لأنها لا تعتقد بأنها في حاجة إلى ذلك. والقرب الجغرافي هو الآخر عامل هام ببساطة لأن ما يحدث بجوار البلد يُرَجَّحُ أنْ يُعَرِّضَ مواطنيه للخطر، ويثيَر هموماً أمنية كبيرة، ويسفر عن تدفق لاجئين، ومتاعب اقتصادية، وآثار سياسية لا يريدها -ويستأثر باهتمام وسائط الإعلام ويولِّدُ مطالبات بالتصرف بناء على ذلك. وبخلاف ذلك، يمكن أن تثيرَ القرابةُ الثقافيةُ قلقاً خاصاًّ على محنة الأخوة في الدين أو في اللغة، حتى في البلدان الصغيرة النائية. وهنا أيضاً نرى أن الثقافة السياسية المفرطة في تطلُّعِها إلى الداخل، بخلاف سابقتها، تجد من الصعب عليها أن تستوعب أي دور لتقديم دعم خارجي؛ بينما نجد كثيراً من النظم السياسية تكافئ السياسيين الذين يوجهون تركيزهم والتزاماتهم كلها نحو الداخل مكافأة تفوق مساهمتهم في الحياة السياسية، مما يترك السياسيين الذين لديهم استعداد لتأييد المشاركة الدولية معزولين تماماً.
8-10 من المتوقع بصورة روتينية أيضاً أن ترى حذراً خاصاًّ من البلدان التي تملك أصولاً عسكرية وشرطية واقتصادية وأصولاً أخرى من التي أكثر ما يكون الطلب عليها  لتنفيذ ولايات التدخل. فنظراً إلى حجم العمليات المستمرة في البلقان (أكثر من 000 50 جندي) وكذلك انخفاض الميزانيات العسكرية لمعظم البلدان عقب انتهاء الحرب الباردة،  تجد هناك قيوداً حقيقية على مقدار الطاقة الزائدة الموجودة لدى البلدان لتحمُّل أعباء إضافية. وربما تكون عمليات حفظ السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة قد بلغت أَوْجَها في عام 1993 حين بلغ عدد الجنود العاملين فيها 000 78 جندي. أما اليوم فإذا حسبنا بعثات حلف شمال الأطلسي وبعثات الأمم المتحدة معاً وجدنا أن عدد الجنود العاملين في عمليات السلام الدولية قد ارتفع بنحو 40 في المائة فبلغ الآن 000 108 جندي. حتى الدول التي تبحث من حيث المبدأ عن التزامات عسكرية أجنبية تجد نفسها مضطرة للاختيار بين البدائل الموجودة لتقرر كيف تستخدم قدراتها المحدودة الواقعة تحت ضغط.
8-11 يتوقف الشيء الكثير في تعبئة التأييد السياسي للتدخل لأغراض الحماية البشرية على قيادة أفراد رئيسيين ومنظمات رئيسية. وينبغي لشخص ما في مكان ما أن يحمل القضية ويركض بها. وللزعماء السياسيين أهمية بالغة في هذا الصدد، ولكنهم ليسوا وحدهم الفاعلين: إنهم في الغالب مستجيبون جداًّ للضغوط التي تمارسها عليهم مختلف جماهيرهم السياسية، ووسائط الإعلام الداخلية، ويتأثرون كثيراً بما تضعه أمامهم أجهزة موظفيهم. وللمنظمات غير الحكومية بدورها دور أساسي ومتزايد باستمرار تؤديه في المساهمة بمعلومات وحجج وطاقة للتأثير على عملية اتخاذ القرارات، فتخاطب راسمي السياسة مباشرة وتخاطبهم بصورة غير مباشرة من خلال الذين بدورهم يؤثرون عليهم. وتتفاوت العمليات المؤسسية لاتخاذ القرارات تفاوتاً كبيراً من بلد إلى بلد، لكنْ دائماً يوجد أشخاص أكثر مسؤولية من غيرهم ويجب تعيينهم وإبلاغهم واستثارتهم وتحديهم وتحميلهم المسؤولية: فإذا كان كل شخص مسؤولاً ففي الحقيقة لا أحد مسؤول.
8-12 الصعوبة في معظم مناقشات “الإرادة السياسية” هي أن الناس يقضون وقتاً يندبون عدم وجودها أكثر مما يقضونه في تحليل العناصر التي تتألف منها ومحاولة معرفة كيف يستخدمونها في سياقات مختلفة. وإذا ما عرَّينا المسألة حتى عناصرها الأساسية تبين لنا أن ما يلزمنا هو فهمٌ جيدٌ للعمليات المؤسسية ذات الصلة، كما ذكرنا، وحججٌ جيدة. وما يشكِّل حجةً جيدة يتوقف بداهةً على السياق المعين الذي تُقَدَّمُ فيه الحجة. وليس من الإفراط في التبسيط أن نقول إن الحجج المؤيِّدة لعمل  دولي من النوع الذي نتناوله في هذا التقرير تحتاج، في معظم النظم السياسية الموجودة في العالم، إلى تأييدها بحجج فيها أربعة أنواع مختلفة من الجاذبية: جاذبية أدبية، وجاذبية مالية، وجاذبية تتعلق بالمصلحة الوطنية، وجاذبية حزبية.
8-13 ففي حالة الجاذبية الأدبية، يكون منع المعاناة البشرية وتجنبها ووقفها -جميع الخسائر الفادحة والبؤس التي تلازم المذابح والتطهير العرقي والمجاعة المتفشية -دوافع ملهمة ومضفية للشرعية في كل بيئة سياسية تقريباً. وغالباً ما يستقلُّ الزعماء السياسيون شأن الشعور بالطيبة والرأفة اللتين تسودان ناخبيهم، على الأقل عندما يُلْفَتُ انتباهُ الناس (كما يستقلّون أيضاً شأن رغبة الجماهير، عندما تُعلَمُ جيداً، في قبول مخاطر وقوع خسائر في الأرواح في تدخلات عسكرية مصمَّمة جيداً تهدف إلى تخفيف حدة تلك المعاناة). غير أن تحريك الدافع الأدبي يعني القدرة على نقل الشعور بإلحاحِ الخطر الذي يهدد حياة الناس في وضع معين وحقيقتِهِ إلى هذه الجماهير. ومن سوء الحظ أن نقل هذا  الشعور يكون أصعب في مرحلة الوقاية الحرجة من نقله بعد وقوع فاجعة حقيقية.
8-14 أفضل حجة مالية هي أن العمل السريع أرخص دائماً من العمل المتأخر. فلو كانت الوقاية ممكنة لكان من المرجح أن تكون تكلفتها أقل بأضعاف مضاعفة من تكلفة الاستجابة بعد وقوع الحدث بتدابير عسكرية أو إغاثة إنسانية أو إعمار بعد الصراع أو كلها مجتمعة. ففي كوسوفو كان أي نوعٍ تقريباً من أنواع النشاط الوقائي -سواء آنطوى على دبلوماسية وقائية أكثر فعالية، أو استخدام تدابير وقائية أبكر وأشد قوة، كتوجيه تهديد ذي مصداقية بتدابير عسكرية برية -سيكون أرخص من مبلغ الـ 46 مليار دولار التي يقدر أن المجتمع الدولي قد ربطها حتى كتابة هذه السطور في شن الحرب ومتابعتها بحفظ السلام والإعمار.
8-15 جاذبيات المصلحة الوطنية يمكن تحريكها على مستويات مختلفة كثيرة. فتجنُّب انحلال دولة جارة، مع ما يترتب على انحلالها من تدفقات اللاجئين وزعزعة الأمن الإقليمي بوجه عام، يمكن أن يكون دافعاً ملحاًّ في سياقات كثيرة. ومما يخدم المصالح الاقتصادية الوطنية في الغالب بنفس المقدار إبقاء خطوط توريد الموارد وطرق التجارة والأسواق مفتوحة بلا عوائق. وأياًّ كان الحال في الماضي، فالسلم يعتبر بوجه عام هذه الأيام أفضل للتجارة من الحرب.
8-16 هناك بُعْدٌ آخر للمصلحة الوطنية له صلة قوية بالتدخل لأغراض الحماية البشرية وهو: المصلحة الوطنية لكل بلد في أن تكون مواطنة دولية صالحة، وفي أن يُرى أنها فعلاً كذلك. وهناك فوائد مباشرة متبادلة كثيرة يمكن تحقيقها في عالم مترابط متحد لا تستطيع أي دولة فيه حلَّ كلِّ مشاكلها بنفسها: فمساعدة بلدي لك اليوم في حل مشكلة اللاجئين والإرهاب في جوارك ربما تؤدي بك إلى جعلك أكثر رغبة في المساعدة على حل مشكلتي في ميدانَي البيئة والمخدرات غداً. ومصلحة البلد في أن يُرى أنه مواطن دولي صالح هي ببساطة فائدة الشُّهرة التي يمكن أن يكسبها لنفسه على مر الأيام بأن يكون دائماً راغباً في المساعدة في المهام الدولية بدوافعَ يبدو أنها تقوم نسبياًّ على الإيثار.
8-17 إقامة الحجة على الجاذبية الحزبية لحكومة مهتمة بتأييدها السياسي في صناديق الاقتراع وغيرها مسألة أكثر حساسية. المسألة، في أي بلد بعينه، هي ببساطة أنَّ الحجج التي ربما لا يكون فيها جاذبية قوية أو كافية لعامة المجتمع ربما تكون فيها مع ذلك تلك الجاذبية لفئة هامة جداًّ من القاعدة التي تؤيد الحكومة نفسها وتكون هذه الفئة مؤثِّرة جداً لهذا السبب. وغالباً ما تُضطرُّ الحكومات إلى فعل أشياء دون أن تعرف رأي الأغلبية فيها، وحتى عندما تعلم أن عواطف الغالبية ضد الإجراء المقترح. والذي يهم الحكومة في الغالب أكثر من غيره هو أن يكون لديها حجج تجتذبُ، أو على الأقل لا تكَرِّهُ قاعدة تأييدها المباشرة؛ وأن تكون لديها حجج تستطيع استخدامها لتنفيس هجمات خصومها السياسيين أو على الأقل للدفاع عن نفسها ضدهم.
 
تعبئة الإرادة السياسية الدولية
 
8-18 ما يحدث في العواصم عنصر بالغ الأهمية في عملية اتخاذ القرارات الدولية؛ لكنه جزء فقط من الصورة. فالإرادة السياسية الدولية أكثر من مجرد حاصل جمع مواقف البلدان المنفردة وسياساتها. ومن البديهي أنَّ ما يحدث بين الدول وممثليها في الاتصالات الثنائية والمتعددة الأطراف، وفي المنظمات الحكومية الدولية، هو أيضاً هامٌّ جداًّ. فضمان النُّطق بالأقوال الصحيحة وتحويلها إلى أفعال -على الصعيد الدولي كما على الصعيد الداخلي – يتطلب نفس النوع من الالتزام والقيادة، ونفس النوع من الحملات المستمرة. وتعبئة التأييد لأمثلة محددة من التدخل تشكِّلُ تحدِّياً في جميع الأوقات، لأنه دائماً يوجد سبب منطقي قوي لعدم القيام بأي شيء. وتنطبق المبادئ نفسها على الصعيد الدولي كما تنطبق على الصعيد الداخلي لمعرفة أين تقع مسؤولية اتخاذ القرارات فعلاً في العمليات المختلفة، وكيف يمكن حصرها. وأهمية القدرة على إنتاج حجج جذابة من حيث الأخلاق والانشغال بالموارد والمصالح المؤسسية والمصالح السياسية في المسرح الدولي لا تقل عن أهميتها في المسرح الداخلي. فهذا التقرير كله، إلى حدٍّ ما، تعبير عن هذه الحجة ذاتها في سياق التدخل لأغراض الحماية البشرية.
8-19 من البديهي أن تكون نقطة البداية حين نبحث عن قيادة متعددة الأطراف بشأن المسائل المتصلة بالتدخُّل هي الأمين العام للأمم المتحدة وكبار موظفي الأمانة. ومع أن الدور الرسمي للأمين العام، بموجب المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة يمكن، كما قلنا، تطويره زيادة على ما هو عليه، فإن أنشطته الروتينية وتفاعله مع مجلس الأمن ، ومركزه الدولي لدى الحكومات ووسائط الإعلام، تعطيه فرصة فريدة لتعبئة التأييد الدولي؛ ويكمن جزء هام آخر من دور القيادة المتعددة الأطراف الذي يقوم به في إقامة تحالفات متعددة الأطراف والمحافظة عليها، فهي عنصر أساسي في التنفيذ المعاصر لعمليات السلام التي تأذن بها الأمم المتحدة. وتقدم الأمانة العامة، بخاصةٍ من خلال تقاريرها وتوصياتها المقدمة إلى مجلس الأمن، مساهمة كبيرة في تشكيل المداولات وتحديد سلسلة الخيارات التي يُنظَرُ فيها. وينبغي أن نقول ثانية إن هذه المساهمة يمكن أن تكون سلبية ويمكن أن تكون إيجابية: فحالة رواندا في عام 1994 انطوت على فشل، لا من قبل دول أعضاء هامة فحسب، وإنما أيضاً من قبل قيادة الأمم المتحدة وكذلك في الأداء الفعلي للأمانة العامة.
8-20 إلى جانب الأمم المتحدة  نفسها، بما في ذلك جميع هيئات المنظومة ووكالاتها التي هي خارج الأمانة العامة، توجد جهات فاعلة دولية أخرى عديدة، لأدوارها صلة هامة جداً بمسألة التدخل، لا سيما المنظمات الإقليمية ودون الإقليمية، والمنظمات الدولية غير الحكومية، ووسائط الإعلام. ولقد ذكرنا الجهات الفاعلة المؤسسية الرئيسية في مختلف أجزاء هذا التقرير ولسنا في حاجة إلى تكرار ذلك هنا أيضاً.
8-21 فيما يتعلق بوسائط الإعلام، ما من شك في أن النقل الجيد للأخبار، والتعليقات المدعومة جيداً بالحجج، وبوجه خاص نقل صور المعاناة في حينها، تولِّدُ ضغطاً داخلياًّ ودولياًّ للقيام بعمل. ويكاد يكون “تأثير الـ سي أن أن” تأثيراً تتعذر مقاومته أياًّ كان مدى اختلال توازن وَقْعِهِ، لأن الأزمات المتساوية في فظاعتها لا تلقى دائماً مساواةً في تغطيتها. ومن جهة أخرى، نرى أن اهتمام وساط الإعلام، بتركيزها الانتباه على معاناة البشر، يميل أحياناً إلى تحويل أنظار راسمي السياسة عن القرارات الدبلوماسية والعسكرية الصعبة، بينما يدفعهم ضغط الوقت أحياناً إلى الانخراط في العمليات قبل أن يتمكنوا من إجراء تحليل وتخطيط جِدِّيَّـيْن.وربما تكون هذه خطيئة أقل شأناً من خطايا عدم القيام بأي  عمل أو التأخر المفرط، ولكنها مع ذلك يمكن أن تثير مشاكل.
8-22 كانت المنظمات الدولية غير الحكومية مدافعة قوية عن أعمال الحماية البشرية عبر الحدود، وامتدت دعوتها أحياناً إلى حد التدخل العسكري، وكان نفوذها الإيجابي في تحريك الاستجابات -في الغرب بوجه خاص -كبيراً. غير أنها هي أيضاً، من منظور صانعي القرار الذين تسعى إلى التأثير عليهم، يمكن أن تكون لها حدودها كهيئات مدافعة: فكثيراً ما يُنظَرُ إليها على أنها تفتقر إلى الخبرة في رسم السياسة، وكثيراً ما تكون منقسمة انقساماً يضرُّ بها حول ماهية المسار السياسي الأمثل بالضبط وأحياناً تتردد علناً (خلافاً لما تقوله في السر) في تأييد التدابير القسرية التي ربما تكون ضرورية، ولكن يصعب على الحكومات أو المؤسسات الحكومية الدولية أن تقوم بها دون تأييد علني.
8-23 لا تختلف أهداف راسمي السياسة والمدافعون عن الإنسانية بعضها عن بعض اختلافاً كبيراً. ومع تسليمنا بأن استخدام القوة الفتاكة يجب أن يظل ملجأً أخيراً، تظل هناك سلسلة من الخيارات في حالة وسط بين عدم عمل أي شيء وبين إرسال القوات. وتوجد دائماً خيارات ينبغي النظر فيها قبل وقوع الصراعات الفتاكة وأثناء وقوعها وبعد وقوعها. ويود راسمو السياسة والمدافعون عن الإنسانية، على السواء، أن يروا السياسة العامة تنجح في معالجة أهم مسائل العصر. ومن أكثر المسائل إلحاحاً من هذا القبيل مسألة كيف نحسِّن مسؤولية حماية الذين يعانون أسوأ الأهوال التي أوجدها العالم المعاصر.
 
الخطوات التالية
 
8-24 كان هدف اللجنة منذ البداية أن يكون لتقريرنا أثر سياسي عملي وملموس، لا أن يكون مجرد حافز إضافي للعلماء والمعلقين الآخرين -وإن كنا نأمل أن يؤدي ذلك أيضاً. والتزمنا بمحور تركيزنا العملي فلم تغب عن بالنا طيلة عملنا ومشاوراتنا الحاجة إلى ضمان أساسٍ متين للمناقشات التي ستجري في الأمم المتحدة وفي المحافل الدولية الأخرى بعد تقديم تقريرنا، وكذلك داخل الحكومات وبين الذين يسعون إلى التأثير عليها.
8-25 أملنا المباشر هو أن يوجد، بفضل المساعدة على توضيح شروط المناقشة وتسليط الضوء عليها -لا كصراع بين السيادة والتدخل، وإنما كعملية تنطوي على “مسؤولية الحماية” كموضوع مشترك -طريق خلال المهاترات الجارية والمأزق الذي تمر به تلك المناقشة حالياًّ. ونود قبل كل شيء أن نعزز إمكانيات تحقيق عمل، على أساس جماعي ومبدئي وبأقل قدر من المعايير المزدوجة، استجابةً لأوضاع حاجة إنسانية كبيرة تهز الضمير وتصرخ طالبة ذلك العمل. فإذا استطاع تقريرنا أن يحفز على تأييد ذلك العمل بتذكير الدول بمسؤوليتها الجماعية فسيكون بالفعل قد قدم مساهمة كبيرة جداً.
8-26 يرد وصف موجز لمبادئ العمل الذي نريد أن نرى توافقاً في الرأي يتكون حوله في الموجز الوارد في الصفحات الأولى من هذا التقرير. فما الذي يجب أن يحدث تالياً للسير بها قُدُماً؟ لقد دارت مناقشات كثيرة على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي حول أفضل الطرق التي ينبغي سلوكُها لتنفيذ المهمة العملية – مهمة محاولة تجسيد أيِّ توافُقٍ جديدٍ في الرأي بين الدول على مسألة التدخل لأغراض الحماية البشرية. فالبعض يقترح أن ينصبَّ التركيز على صياغة مبادئ توجيهية لاستعمال مجلس الأمن داخلياًّ؛ وآخرون يؤيدون اعتماد الجمعية العامة قراراً أكثر رسمية؛ وآخرون غيرهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، ذهبوا إلى حد اقتراح أن يبدأ العمل فوراً على صياغة مشروع اتفاقية دولية جديدة أو حتى تعديلٍ لميثاق الأمم المتحدة ذاته.
8-27 تعتقد اللجنة أن من السابق لأوانه أن نصدر حكماً الآن على ما سيثبت في النهاية أنه ممكن إذا تنامى توافق الآراء حول فكرة “مسؤولية الحماية” إلى الحد الذي نأمل أن يبلغه. والشيء المهم الآن هو أن نبدأ بدايةً تعمل فيها الدول الأعضاء مع الأمين العام لإعطاء مضمون جوهري وإجرائي للأفكار التي قدمناها. وهناك أدوار كبيرة يمكن أن يؤديها كل من الأمين العام نفسه، ومجلس الأمن، والجمعية العامة. ونحن نقدم بعض المقترحات في هذا الصدد في التوصيات التالية. ولا تُصدرُ اللجنةُ حكماً على أنسب ترتيبٍ تُتَّخَّذُ به هذه الخطوات.
8-28 توصي اللجنة الجمعية العامة بما يلي:
أن تعتمد الجمعية العامة قراراً إعلانياًّ تتجسد فيه المبادئ الأساسية لمسؤولية الحماية ويضم أربعة عناصر أساسية:
• تأكيد فكرة السيادة كمسؤولية؛
• التشديد على المسؤولية الثلاثية للمجتمع الدولي للدول -أن يمنع وأن يقوم برد فعل وان يعيد البناء -عندما يواجَهُ بمطالب حماية بشرية في دول تكون إما غير قادرة أو غير راغبة في تَحَمُّلِ مسؤوليتها عن الحماية؛
• تعريف العتبة (وقوع خسائر كبيرة في الأرواح أو تطهير عرقي أو خشية وقوعها) التي يجب أن تبلغها مطالب الحماية البشرية لتبرر التدخل العسكري؛
• صياغة المبادئ الاحترازية (النية الصحيحة، والملجأ الأخير، وتناسُبُ الوسائل، والإمكانيات المعقولة) التي يجب مراعاتها عندما تُستخدَمُ القوة العسكرية لأغراض الحماية البشرية.
8-29 توصي اللجنة مجلس الأمن بما يلي:
1 – أن ينظر أعضاء مجلس الأمن ويسعوا إلى الاتفاق على مجموعة المبادئ التوجيهية التي تشمل “مبادئ التدخل العسكري” الواردة بإيجاز في الموجز، لتنظم استجاباتهم للمطالبات بتدخل عسكري لأغراض الحماية البشرية.
2 – أن ينظر الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن ويسعوا إلى الاتفاق على عدم استخدام حق الفيتو في الأمور التي لا تمس مصالح دولهم الحيوية، وسيلةً للحيلولة دون اعتماد المجلس قرارات يأذن فيها بتدخل عسكري لأغراض الحماية البشرية تحظى بتأييد الأغلبية لولا الفيتو.
8-30 توصي اللجنة الأمين العام بما يلي:
أن ينظر الأمين العام ويتشاور، حسب الاقتضاء، مع رئيس مجلس الأمن ورئيس الجمعية العامة بشأن أفضل طريقة لدفع التوصيات الجوهرية والعملية الواردة في هذا التقرير قُدُماً في الهيئتين المذكورتين وبتدابير أخرى يتخذها هو نفسه.
 
مواجهة التحدي
 
8-31 سعت اللجنة في كل مشاوراتها إلى التوفيق بين هدفين: تعزيز سيادة الدول لا إضعافها، وتحسين قدرة المجتمع الدولي على القيام برد فعل حاسم عندما تكون الدول غير قادرة أو غير راغبة في حماية شعوبها. والتوفيق بين هذين الهدفين أمرٌ أساسي. ولا توجد أي إمكانية للمساواة الحقيقية بين الشعوب ما لم تُحتَرَم سيادة الدول، وتُعَزَّز قدرتها على حماية مواطنيها. وكذلك، وبنفس المقدار، سيصبح “مصطلح المجتمع” الدولي نفسه مهزلة ما لم يستطع مجتمع الدول أن يتصرف بحزم عندما تُذبح مجموعات كبيرة من الناس أو تتعرض للتطهير العرقي.
8-32 اللجنة متفائلة في أنه يمكن في الواقع التوفيق بين هذين الهدفين المزدوجين -تعزيز القدرة السيادية للدول وتحسين قدرة المجتمع الدولي على حماية الناس الذين يتعرضون لخطر الموت. وعملنا يعكس التغيُّر الملحوظ، بل التاريخي، الذي حدث في ممارسة الدول ومجلس الأمن في الجيل الماضي. وبفضل هذا التغيُّر لا أحد مستعدٌّ للدفاع عن الادعاء بأن من حق الدول أن تفعل ما تشاء بمواطنيها، وتختبئ وراء مبدأ السيادة في فعل ذلك. فكما أنه لا يمكن، في المجتمع الدولي، أن توجد حصانة لاستخدام القوة من جانب واحد دون مبرر، لا توجد حصانة للمذابح والتطهير العرقي. ولا ينبغي أن يُسمح لأي شخص يرتكب هذه الفظائع أن ينام قرير العين.
8-33 هذا التوافق الأساسي في الرأي يعني ضمناً أن على المجتمع الدولي مسؤولية التصرف بحزم عندما تكون الدول غير راغبة أو غير قادرة على الوفاء بهذه المسؤوليات الأساسية. وقد سعت اللجنة إلى صياغة هذا التوافق صياغة واضحة وتدعو جميع أعضاء مجتمع الأمم، وكذلك الجهات الفاعلة غير الحكومية، ومواطني الدول إلى تبنّي فكرة مسؤولية الحماية كعنصر أساسي في مدونة المواطَنَة العالمية، للدول والشعوب، في القرن الحادي والعشرين.
8-34 إن مواجهة هذا التحدي أكثر من مجرد مسألة طموح. إنها ضرورة أساسية. فلم يُلحِقْ شيءٌ من الأذى بالفكرة المثالية التي نشترك فيها جميعاً، وهي أننا كلنا متساوون في القدر وفي الكرامة وأن الأرض بيتنا المشترك أكثر مما ألحقه عجز المجتمع الدولي عن منع الإبادة الجماعية والمذابح والتطهير العرقي. فإذا كنا نؤمن بأن جميع البشر لهم الحق، على قدم المساواة، في الحماية من الأعمال التي هزت ضميرنا كُلِّنا فَعَلَيْنا أن نحقق التكافؤ بين الكلام والواقع، وبين المبدأ والممارسة العملية. لا نستطيع أن نقنع بالتقارير والإعلانات. يجب أن نكون مستعدين للعمل. ولن نستطيع أن نعيش مع أنفسنا إذا لم نفعل ذلك.
 
أعضاء اللجنة
 
غاريث إيفانز (أستراليا)، رئيس مشارك: كان رئيساً لفريق الأزمات الدولية والمسؤول التنفيذي الأول فيه منذ شهر كانون الثاني/يناير 2000. وكان عضواً في مجلس الشيوخ الأسترالي وعضواً في البرلمان من عام 1978 حتى عام 1999، وعضو مجلس الوزراء لمدة ثلاث عشرة سنة (1983-1996). حين كان وزيراً للخارجية (1988-1996) قام بأدوار بارزة في وضع خطة الأمم المتحدة للسلام في كمبوديا، وعَقَدَ اتفاقية الأسلحة الكيميائية، وأسَّسَ منتدى التعاون الاقتصادي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، وشرع في تأسيس لجنة كانبيرا للقضاء على الأسلحة النووية. يحمل لقب مستشار الملكة (1983) ووسام أستراليا برتبة ضابط (2001). من منشوراته العديدة كتاب التعاون من أجل السلام Cooperating for Peace) )(1993) ومقال بعنوان الأمن التعاوني والصراع داخل الدولة (CooperativeSecurity and Intrastate Conflict) في مجلة الشؤون الخارجية، 1994(Foreign Policy, 1994)، وعليه نال جائزة غرويماير للأفكار التي تحسِّن النظام العالمي.
 
محمد سحنون (الجزائر)، رئيس مشارك: مستشار خاص للأمين العام للأمم المتحدة، وقد عمل  من قبل مبعوثاً خاصاً للأمين العام في الصراع بين إثيوبيا وإريتريا في عام 1999؛ ممثل خاص مشترك للأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية في منطقة البحيرات الكبرى في إفريقيا (1997)؛ ممثل خاص للأمين العام للصومال (آذار/مارس-تشرين الأول/أكتوبر 1992). وكان أيضاً عضواً في اللجنة العالمية المعنية بالبيئة والتنمية (لجنة برونتلاند). وهو دبلوماسي جزائري كبير عمل سفيراً لدى ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة والمغرب ومندوباَ دائماً لبلاده لدى الأمم المتحدة في نيويورك. وعمل أيضاً نائباً للأمين العام لمنظمة الوحدة الإفريقية والأمين العام لجامعة الدول العربية.
 
جيزيل كوتيه-هاربر (كندا): محامية وأستاذة قانون في جامعة لافال في كيبك. كانت عضواً في لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومعهد البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، ولجنة كيبك لحقوق الإنسان، وفي عدة هيئات أخرى. كانت رئيسة لمجلس إدارة المركز الدولي لحقوق الإنسان والتطور الديمقراطي (مونتريال) 1990-1996 وعضواً في الوفد الكندي الرسمي للمؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة، بيجين، 1995. منحت ميدالية ليستر بي. بيرسون للسلام في عام 1995. وفي عام 1997 منحت وسام كندا برتبة ضابط، وحصلت على مدالية نقابة محامي كيبك . من بين كتبها المنشورة “أطروحة في القانون الجنائي الكندي” (الطبعة الرابعة، 1998) (Traité de droit pénal canadien (4th ed, 1998)).
 
لي هاملتون (الولايات المتحدة): مدير مركز وودرو ويلسون الدولي للدارسين، واشنطن دي سي، ومدير مركز الكونغرس في جامعة إنديانا. عضو كونغرس الولايات المتحدة من عام 1965 حتى عام 1999، ومن بين المناصب البارزة التي شغلها رئيس لجنة العلاقات الدولية، واللجنة المختارة الدائمة للاستخبارات، واللجنة الاقتصادية المشتركة.  عمل في عدة لجان تُعنى بالعلاقات الدولية، بما في ذلك فرقة العمل المعنية بتعزيز المؤسسات العامة الفلسطينية، وفرقة العمل المعنية بمستقبل الهيكل المالي الدولي، وفرقة العمل المستقلة المعنية بالعلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا في القرن الحادي والعشرين التابعة لمجلس العلاقات الخارجية، وفي أفرقة ولجان ومجالس أخرى عديدة.
 
مايكل إيغناتيف (كندا): عمل حالياًّ أستاذاً (أستاذ كار) لممارسة حقوق الإنسان في كلية كنيدي للحكومة بجامعة هارفارد. وهو أيضاً زميل أقدم في المؤسسة الائتمانية للقرن الحادي والعشرين، وكان عضواً في اللجنة الدولية المستقلة المعنية بكوسوفو. منذ عام 1984 عمل كاتباً ومذيعاً ومؤرخاً وفيلسوف آداب ومحلِّلاً ثقافياًّ حراًّ غير مرتبط بوظيفة معينة. كتب كثيراً عن الصراعات الإثنية، وفي الآونة الأخيرة عن الصراعات المختلفة التي وقعت في البلقان، بما فيها الحرب الافتراضية: كوسوفو وما بعدها (Virtual War: Kosovo and Beyond). وألف كذلك كتباً عديدة أخرى، من بينها سيرة حياة الفيلسوف الليبرالي آيزايا برلين. وفاز كتابه المعنون “الألبوم الروسـي” (The Russian Album) بجائزة الحاكم العام لكندا وجائزة هاينيمان من الجمعية الملكية البريطانية للأدب في عام 1998. ووضعت قصته المعنونة “نُدبة جرح” (Scar Tissue) على القائمة  القصيرة بالمرشحين لجائزة بوكر في عام 1993.
 
فلاديمير لوكين (روسيا): نائب رئيس مجلس الدوما الروسي حالياًّ. عمل في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية، موسكو (1961-1965) ومعهد دراسات الولايات المتحدة وكندا في أكاديمية العلوم باتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية (1968-1987). وفي الفترة 1965-1968، عمل محرراًّ للمجلة الدولية المسماة “مشاكل العالم والاشتراكية” (Problems of the World and Socialism) في براغ، ولكنه طُرِدَ منها لمعارضته غزو الاتحاد السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا في عام 1968. والتحق بوزارة الخارجية السوفياتية في عام 1987، وعمل سفيراً لروسيا لدى الولايات المتحدة (1992-1993). وانتُخِبَ نائباً في المجلس الأعلى لجمهورية روسيا الاشتراكية الاتحادية السوفياتية في عام 1990 وفي مجلس الدوما للاتحاد الروسي في عام 1993. وفي تلك السنة ساعد على تأسيس جناح يابلكة، وهو حزب ما زال يمثله. وعمل رئيساً للجنة الشؤون الدولية في الدوما (1995-1999).
 
كلاوس نومان (ألمانيا): عمل رئيساً للجنة العسكرية لشمال الأطلسي التابعة لحلف شمال الأطلسي (1996-1999)، وقام بدور رئيسي في إدارة أزمة كوسوفو وفي تطوير هيكل القيادة العسكرية المتكاملة الجديدة لحلف شمال الأطلسي. والتحق بالجيش الاتحادي الألماني في عام 1958. وعمل، وهو في رتبة عقيد، في هيئة أركان الممثل العسكري الألماني في اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي في بروكسيل في الفترة 1981-1982. ورقي إلى رتبة عميد في عام 1986 ثم عُيِّنَ، برتبة لواء، مساعداً لرئيس أركان القوات المسلحة الاتحادية. ثم رقّيَ إلى رتبة فريق أول في عام 1991 وعيِّنَ في الوقت نفسه رئيساً للأركان وظل في هذا المنصب حتى أصبح رئيساً للجنة العسكرية لشمال الأطلسي. وبعد إحالته على التقاعد عُيِّنَ عضواً في الفريق المعني بعمليات الأمم المتحدة للسلام.
 
سيريل رامافوزا (جنوب إفريقيا): يشغل حالياًّ منصب الرئيس التنفيذي لشركة ريبسيرف، وهي شركة كبيرة لإدارة الخدمات والتسهيلات في جنوب إفريقيا. انتُخِبَ أميناً عاماًّ للمؤتمر الوطني الإفريقي في حزيران/يونية 1991، لكنه ترك السياسة وتفرغ للأعمال التجارية في عام 1996. ولعب دوراً كبيراً في إقامة أكبر وأقوى نقابة عمال في جنوب إفريقيا، وهي الاتحاد الوطني لعمال المناجم من عام 1982 فما بعد. السيد رامافوزا محامٍ وانقطع عن دراسته الجامعية فترات قضاها في السجن لنشاطه السياسي. وقام بدور حاسم في المفاوضات مع نظام حكم جنوب إفريقيا السابق لإنهاء نظام الفصل العنصري سلمياًّ وتوجيه البلد نحو أول انتخابات ديمقراطية في عام 1994، وانتُخِبَ بعدها رئيساً للجمعية التأسيسية الجديدة. وتلقى جائزة أولاف بالمي في تشرين الأول/أكتوبر 1987، ودُعِيَ إلى المشاركة في عملية السلام في إيرلندا الشمالية في أيار/مايو 2000..
 
فيدل في. راموس (الفلبين): كان رئيساً لجمهورية الفلبين في الفترة 1992-1998، ومنذ عام 1999، رئيساً لمؤسسة راموس للسلام والتنمية، التي تُعنى بأمور الأمن، والتنمية المستدامة، والحكم الديمقراطي، والدبلوماسية الاقتصادية، في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية شغل مناصب مرموقة في الجيش والشرطة وشارك في الحرب الكورية وحرب فيتنام. وأصبح نائباً لرئيس أركان القوات المسلحة الفلبينية في عام 1981، ورئيساً للأركان في عام 1986، ووزيراً للدفاع الوطني في الفترة 1988-1991. قام بدور رئيسي في المفاوضات مع الثوار المسلمين في جنوب الفلبين، وكتب كتاباً بعنوان “لا تخرقوا السلام” (Break Not the Peace) عن عملية السلام تلك.
 
كورنيليو سُماروغا (سويسرا): رئيس مؤسـسة كوكس لإعادة التسـلح الخلقي Caux Foundation for Moral Re-Armament)) في الوقت الحاضر، وكذلك رئيس مركز جنيف الدولي لنزع الألغام لأغراض إنسانية. وهو، بالإضافة إلى ذلك، عضو مجلس إدارة معهد المجتمع المفتوح، بودابست، وكان عضواً في الفريق المعني بعمليات الأمم المتحدة للسلام. وكان قبل ذلك رئيساً للجنة الصليب الأحمر الدولية (1987-1999). وفي الفترة 1984-1986 كان وزيراً للشؤون الاقتصادية الخارجية في سويسرا. ومنذ عام 1960 قضى فترة طويلة في السلك الدبلوماسي السويسري شغل خلالها مناصب مرموقة منها لفترة ما، ابتداء من عام 1973، نائب الأمين العام لمنظمة التجارة الحرة الأوروبية (إفتا) في جنيف. وفي الفترة 1977-1978 كان رئيساً للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية في أوروبا.
 
إدواردو شتاين باريّاس (غواتيمالا): يعمل الآن لدى برنامج الأمم المتحدة في بنما وعمل  رئساً للجنة منظمة البلدان الأمريكية لمراقبة الانتخابات العامة في بيرو في أيار/مايو 2000. وكان وزيراً لخارجية غواتيمالا (1996-2000) وقام، وهو في هذا المنصب، بدور أساسي في الإشراف على مفاوضات السلام الغواتيمالية، لا سيما في حشد التأييد الدولي لها. درَّس في جامعات غواتيمالا وبنما في الفترة 1971-1980 ثم 1985-1987. ومن عام 1982 حتى عام 1993 كان مقره في بنما وعمل في مشاريع مختلفة للتنمية الإقليمية في أمريكا اللاتينية في إطار المنظومة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية ومجموعة كونتادورا. وانطوى عمله هذا على التعاون مع مختلف بلدان أمريكا اللاتينية والجماعة الأوروبية وبلدان الشمال الأوروبي. من شهر كانون الأول/ديسمبر 1993 حتى 1995 كان ممثلاً مقيماً في بنما للمنظمة الدولية للهجرة.
 
رامِش ثاكَر (الهند): كان نائباً لمدير جامعة الأمم المتحدة في طوكيو منذ عام 1998، مسؤولاً عن برنامج الجامعة للسلام والحكم. تلقى دراسته في الهند وكندا، وعمل محاضراً ثم أستاذاً للعلاقات الدولية في جامعة أوتاغو (نيوزيلندة) من عام 1980 حتى عام 1995. ثم عُيِّنَ أستاذاً ورئيساً لمركز بحوث السلام في الجامعة الوطنية الأسترالية في كانبيرا، حيث شارك في مؤتمر مراجعة معاهدة حظر التجارب النووية وتمديدها، وصاغ مشروع معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية والحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية. وكان أيضاً مستشاراً للجنة كانبيرا لإزالة الأسلحة النووية. وكتب العديد من الكتب والمقالات منها الماضي الناقص (Past Imperfect)، المستقبل الغامض: الأمم المتحدة في سن الخمسين   (Future Uncertain: The United Nations at Fifty)، وفي عام 2000 شارك في تحرير كتاب بعنوان: كوسوفو وتحدّي التدخل الإنساني Kosovo and the Challenge of Humanitarian Intervention)).