التسامح

oslo62084_2

آندرو فيالا

1 التسامح

يُعتبر ضبط النفس هو جوهر التسامح. فعندما نتسامح مع أي نشاط، نقاوم رغبتنا في منع التعبير عن الأنشطة التي نجدها غير محببة بالقوة. من وجهة نظرية أكثر، يمكن فهم التسامح على أنه ممارسة سياسية تهدف إلى الحياد أو الموضوعية أو الإنصاف من جانب الأطراف السياسية. تترابط هذه الأفكار لأن الهدف من الحياد السياسي هو الضبط المتعمد للقوة التي تمتلكها السلطات السياسية لرفض الأنشطة الحياتية للمواطنين والأفراد تحت سلطتها. وترتبط بالتسامح فضيلة التسامح التي يمكن تعريفها على أنها نزعة نحو التسامح. وعادة ما يرتكز التسامح على افتراض حول أهمية استقلالية الأفراد. إذ إن هذا الافتراض وفكرة التسامح من الأفكار الرئيسية في النظرية والممارسة الليبرالية الحديثة.

ففضيلة التسامح مضمّنة في منهج سقراط القائم على السماح بالتعبير عن العديد من وجهات نظر المتنوعة. في القرن السابع عشر، تم تطوير مفهوم التسامح في أوروبا مع سعي المفكرين الليبراليين إلى الحد من الإجراءات القسرية التي تفرضها الحكومة والكنيسة، واعتبروا أن البشر معرضين للخطأ وينبغي أن يتمتعوا بالتواضع المعرفي. إضافة إلى ذلك، يدرك الفرد مصلحته أفضل من أي شخص آخر وهو يتطلب التسامح من الآخرين من أجل العثور على أفضل طريقة للعيش.

يقدم المقال التالي لمحة مفاهيمية وتاريخية عن مفهوم التسامح، إذ يعرض آراء مفكرين مثل سقراط، وجون لوك، وجون ستيوارت ميل، وإيمانويل كانط، وجون رولس وفلاسفة السياسية المعاصرة الآخرين الذين ساهموا بشكل بارز في هذه الفكرة الهامة والتي تطرح إشكالية في الوقت عينه.

جدول المحتويات

     1 التسامح

     2 التحليل المفاهيمي

     3 التطور التاريخي

          3.1 التاريخ القديم

          3.2 القرن السابع عشر

          3.3  القرن الثامن عشر

          3.4  القرن التاسع عشر

          3.5 القرن العشرون

     4 التسامح المعرفي

          4.1 سقراط

          4.2  ميلتون

          4.3 لوك

          4.4 ميل

          4.5 مشكلة النسبية

     5 التسامح الأخلاقي

          5.1 مفارقة التسامح

          5.2 التسامح مقابل اللامبالاة

     6 التسامح السياسي

​          6.1 جون رولس

          6.2 المخاطر والفوائد

     7 المراجع والمزيد من القراءات

​2 التحليل المفاهيمي

تشتق كلمتا “تسامَح” و”تسامُح” من الجذع الثلاثي (سمح) الذي يحمل في طياته التحمل والمعاناة والتكبد والصبر. وتشمل المفردات اليونانية القديمة التي تكون قد أثرت أيضًا على التفكير الفلسفي حول التسامح كلمات phoretos وتعني المحتمل وما يمكن تحمله و phoreo وتعني بالحرف ما يُحمَل و anektikos وتعني المحمول وما يُطاق والمقبول و anexoوتعني فعل الحمل.

في يومنا هذا، عندما نقول إن شخصًا ما لديه “تسامح كبير مع الألم” نعني أنه قادر على تحمل الألم. إن هذه الطريقة العادية في التفكير مفيدة لفهم فكرة التسامح وفضيلة التسامح، فهي تؤكد على حقيقة أن التسامح موجه من قبل الشخص تجاه شيء ينظر إليه على أنه سلبي. بالتالي، يكون من الغريب القول، على سبيل المثال، إن شخصًا ما لديه قدرة عالية على تحمل المتعة.

مع أخذ هذا بعين الاعتبار، يمكننا صياغة تعريف عام للتسامح يشمل ثلاثة شروط مترابطة. فعندما يتسامح الشخص مع شيء ما:

          1) يحمل حكمًا سلبيًا على هذا الشيء،

          2) يتمتع بالقدرة على رفض هذا الشيء،

          3) يتعمد العزوف عن النفي.

يتطلب الشرط الأول حكمًا سلبيًا قد يتراوح من عدم الموافقة إلى الاشمئزاز. ومن المفترض أن يكون الحكم هنا عبارة عن مفهوم واسع يمكن أن يشمل المشاعر والتصرفات والأذواق والتقييمات المعقولة. كما أن هذا الحكم السلبي يدفع الشخص نحو اتخاذ خطوة سلبية تجاه الشيء الذي ينظر إليه على أنه سلبي. إن هذا المفهوم الرواقي واسع النطاق حول الحكم هو افتراض شائع في المناقشات حول التسامح. يفترض المدافعون عن التسامح أنه يمكننا، إلى حد ما، التحكم طوعًا بالتعبير عن ردود الفعل السلبية لدينا من خلال معارضتها بأحكام مختلفة ومضادة. وعلى الرغم من أنه يُعتقد أن الأحكام والمشاعر تتمتع بقوة تحفيزية، إلا أنه يمكن مواجهتها من خلال الأحكام أو العادات أو الفضائل الأخرى.

يمكن للكيان الذي يحكم عليه الشخص حكمًا سلبيًا أن يكون حدثًا أو شيئًا أو شخصًا على الرغم من أنه فيما يتعلق بالتسامح كتصرف أخلاقي وسياسي، عادة ما يُعتقد أن الكيان هو شخص آخر. على الرغم من أننا نتحدث عن التسامح مع الألم، على سبيل المثال، إلا أن التركيز المعنوي والسياسي ينصبان على التسامح مع شخص آخر أو مجموعة من الناس أو أنشطتهم.

ينص الشرط الثاني على أن الشخص يتمتع بالقدرة على رفض الكيان المعني. بالتالي يقوم التسامح على مقاومة إغراء رفض الشيء المعني بشكل نشط. ومن أجل التمييز ما بين التسامح والجبن أو ضعف الإرادة، يجب أن يتحلى الشخص ببعض القدرة على تحويل حكمه السلبي إلى أفعال. فالتسامح يتم عندما يمكن للشخص رفض الشخص أو الشيئ المعني بشكل نشط أو تدميره، ولكن يختار عدم القيام بذلك.

يتم استخدام كلمة “رفض” هنا بمعناها الواسع الذي يسمح بمجموعة متنوعة من ردود الفعل السلبية. ويمكن للأعمال السلبية أن تشمل: عبارات الإدانة أو فعل التجنب أو الهجمات العنيفة. إن تسلسل الرفض غامض بالتأكيد. فليس من الواضح على سبيل المثال ما إذا كانت الإدانة والتجنب يشكلان رفضًا من نفس نوع الفعل العنيف. وعلى الرغم من غموض تسلسل النشاطات السلبية، تتركز النقطة المحورية في المعيار الثاني على قوة الرفض: التسامح هو ضبط قوة الرفض.

ينص الشرط الثالث على أن الشخص يتعمد العزوف عن ممارسة قدرته على الرفض. فالأشخاص المتسامحون يختارون عمدًا عدم رفض تلك الأشياء التي ينظرون إليها على أنها سلبية. فالصياغة السلبية، و”ليس الرفض”، هامة لأن التسامح ليس نفس التقييم الإيجابي أو الاستحسان أو الموافقة.

من المفترض أن يكون الاحجام المتسامح عن الحكم السلبي حرًا ومتعمدًا: إذ يمتنع المرء عن رفض الشيء لأن لديه سبب لعدم رفضه وهو حر في التصرف. هذا وتتعدد الأسباب الوجيهة للتسامح وتشمل: احترام الاستقلالية والالتزام العام بالسلمية والاهتمام بالفضائل الأخرى مثل اللطف والكرم والاهتمامات التربوية والرغبة في المعاملة بالمثل والشعور بالتواضع حول قدرة المرء على الحكم على معتقدات الآخرين وتصرفاتهم. يوفر لنا كل عامل من هذه العوامل سببًا للتفكير بأنه من الجيد عدم رفض الموضوع المعني. وكما ذُكر آنفًا، قد تكون هناك أيضًا أسباب غير متسامحة للامتناع عن الرفض: الخوف وضعف الإرادة وحافز الربح والمصلحة الذاتية والغطرسة، وما إلى ذلك.

على الرغم من توفر أسباب عدّة ليكون المرء متسامحًا، فقد شددت المناقشات التقليدية على احترام الاستقلالية والاهتمامات التربوية. غالبًا ما يكمن خلف هاتين المقاربتين شكل من أشكال التواضع الفلسفي القائم على الوعي الذاتي الذي يرتبط بقيمة احترام الاستقلالية. فكما بيّن جون ستيوارت ميل وغيره، ينبغي أن يُترك الأفراد للسعي وراء مصلحتهم بطريقتهم الخاصة، وذلك في جزء منه لأن كل فرد يعرف نفسه ويدرك احتياجاته ومصالحه أفضل من غيره. إلا أن وجهة النظر هذه تضعنا أمام مشكلة عالقة، بما أنه يمكن للتسامح أن ينزلق بسهولة نحو الشك والنسبية. بالتالي تجدر الإشارة إلى أن التسامح هو من القيم الإيجابية التي لا تستند إلى الشك الأخلاقي التام. فأنصار التسامح لا يعتقدون بأن التسامح جيد لأنهم غير متأكدين من قيمهم الأخلاقية ولكن، بدلًا من ذلك، لأن التسامح يندرج ضمن صيغة للقيم الأخلاقية تشمل قيمًا مثل الاستقلالية والسلام والتعاون وغيرها من القيم التي يُعتقد أنها جيدة لازدهار الإنسان.

3 التطور التاريخي

     3.1 التاريخ القديم

إن روح التسامح واضحة في منهج سقراط الحواري كعنصر من عناصر بحثه عن الحقيقة. في خلال أولى الحوارات الأفلاطونية، سمح سقراط بتسامح لمحاوريه بالسعي إلى الحقيقة أينما كان هذا السعي قد يؤدي. كما وشجع محاوريه على القيام بدحض الأفكار لأن ذلك قد يكشف عن الحقيقة. لكن في بعض الأحيان قد يبدو أن تسامح سقراط تجاوز الحدود المعقولة. وتخلص معضلة يوثيفرو، على سبيل المثال، بسماح سقراط ليوثيفرو بالمضي قدمًا في ملاحقة دعوى قضائية مشكوك فيها. كما أن علاقة سقراط بألكيبيادس، كما نوقش في نص حوار المأدبة لأفلاطون، تُظهر سقراط على أنه ربما متسامح أكثر من اللزوم تجاه هذا الشاب الأثيني المتهور. في حوار غورجياس (في القسم 458أ) يصف سقراط نفسه بمصطلحات تقيم صلة بين المنهجية الفلسفية وشكل من أشكال التسامح. إذ يقول،

أي نوع من الرجال أنا؟ رجل يرحب بأن يتم دحض رأيه إذا كان أي مما أقوله غير صحيح، ورجل يدحض بكل سرور آراء الآخرين الذين يقولون ما ليس صحيحًا. ولا أحزن إذا تم دحض آرائي بقدر ما لا أحزن إذا قمت أنا بدحض آراء الغير، لأنني أرى فائدة أكبر ونعمة أكبر في أن يتم تخليص المرء من أسوأ الشرور من أن يخلص هذا المرء غيره.

بالتالي، يرتبط السعي وراء الحقيقة بالنسبة إلى سقراط بالعقل المنفتح، على الرغم بالطبع من أنه يفترض بهذا النموذج من التسامح القائم على الحوار بأن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة.

يمكن للمرء أن يطّلع على شكل أكثر تطورًا من التسامح في المدرسة الرواقية لدى أبكتيتوس (55-135م) وماركوس أوريليوس (121-180 م). إذ تقوم فكرة الرواقية على أنه ينبغي علينا أن نركز على الأشياء التي يمكننا السيطرة عليها، مثل آرائنا وسلوكياتنا الخاصة، بينما نتجاهل تلك التي لا يمكننا السيطرة عليها، ولا سيما آراء وسلوكيات الآخرين. هذا وترتبط فكرة الرواقية بالتنازل واللامبالاة، كما هو واضح في حالة أبكتيتوس، الذي من الممكن لمكانته الاجتماعية أن تفسر نصيحته حول التحمل والصبر، باعتبار أنه نشأ كعبد روماني. من المؤكد أن المشكلة هنا تكمن في أن صبر العبيد ليس هو نفسه التسامح، إذ يبدو واضحًا أن التسامح يتطلب بحق القدرة على الرفض، التي لا يمتلكها العبد. لكن مع الإمبراطور ماركوس أوريليوس يعتبر التسامح فضيلة للسلطة. فقد يكون التسامح مرتبطًا بفضائل أخرى للسلطة مثل الرحمة والإحسان، كما اقترح سينيكا على سبيل المثال. بيد أنه لا بد من أن نشير إلى أن مقاربة الرواقية للتسامح لم تكن مرتبطة صراحة بالفكرة العامة حول الاحترام السياسي للاستقلالية وحرية الضمير كما هو الحال في التقليد الليبرالي الحديث. إضافة إلى ذلك، لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة أبدًا كما الحياة السياسية الحديثة. على سبيل المثال، على الرغم من أن تأملات ماركوس تحتوي على العديد من المقاطع التي تدعو إلى روح التسامح، إلا أن هذا الأخير كان مسؤولًا عن استمرار اضطهاد المسيحيين.

توفر التقاليد الدينية خلفية تاريخية إضافية حول فكرة التسامح. على سبيل المثال، يمكن اكتشاف روح التسامح في رسالة الإنجيل المسيحي حول حب الأعداء ومسامحة الآخرين والامتناع عن الحكم على الآخرين. يرتبط التسامح المسيحي بالفضائل الأخرى مثل الإحسان والتضحية بالنفس. إلى جانب ذلك، يبدو أنه يتخطى التسامح نحو نوع من الحب والقبول يقوم على الإنكار الذاتي. فأمر المسيح بأن “أحبوا أعداءكم” يشكل أحد الأمثلة على هذه المحاولة لتخطي التسامح. وتجدر الإشارة إلى أن التقاليد الدينية الأخرى تشمل أيضًا مصادر حول تطوير التسامح. على سبيل المثال، يمكن ربط الرحمة البوذية بفكرة التسامح. في الواقع، في القرن الثالث قبل الميلاد، دعا الإمبراطور البوذي في الهند، أشوكا، إلى التسامح الديني الرسمي. بالمثل، في القرن السادس عشر ميلادي، قام الإمبراطور الإسلامي جلال الدين أكبر بمحاولة مماثلة في إرساء التسامح الديني في شبه القارة الهندية.

على الرغم مما ذُكر آنفًا، لم يصبح التسامح موضوعًا جديًا للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر. ففي خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، قام مؤيدي الفلسفة الإنسانية مثل إيراسموس (1466- 1536)، ودي لاس كاساس (1484-1566)، ومونتين (1533-1592) بالتأكيد على استقلالية العقل البشري في وجه التصلب الفكري للكنيسة. وعلى الرغم من أن السلطات الدينية ردت على ذلك من خلال تشكيل محاكم التفتيش ووضع دليل الكتب المحرمة، إلا أن الفلاسفة، وبحلول القرن السابع عشر، كانوا يفكرون جديًا في مسألة التسامح.

     3.2 القرن السابع عشر

بعد الانقسامات التي نتجت عن حركة الإصلاح بقيادة مارتن لوثر وحركة الإصلاح المضاد، هلكت أوروبا بسبب الحرب والعنف الذي تم التحريض له باسم الدين، والذي بلغ ذروته في حرب الثلاثين عامًا (1618-1648). ومن خلال أحداث مشابهة أدرك هؤلاء العلماء القوة التدميرية لعدم التسامح وسعوا إلى الحد من هذه القوة المدمرة عبر إعادة التحقق من جذور التسامح في الإنجيل وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية. إلى جانب ذلك، تشمل التأثيرات الإضافية على المشهد الثقافي في أوروبا في خلال هذه الفترة النضال من أجل تعريف السيادة و”تطهير” الدين في بريطانيا في خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640- 1660)، فضلًا عن ازدياد المعلومات حول الاختلافات الثقافية مع بداية استكشاف العالم. ومن بين المفكرين من هذه الفترة، دافع عن مفهوم التسامح كل من ميلتون (1608-1674)، وبايل (1647-1706)، وسبينوزا (1634-1677)، ولوك (1632-1704).

يُشار إلى أن مخاوف مفكري الفلسفة الإنسانية في عصر الإصلاح شملت القلق مما إذا كان من الممكن وجود معرفة خاطئة حول الإرادة الإلهيه بحيث يمكن للمرء أن يبرر اضطهاد الهراطقة. يكمن هذا الاهتمام بكون البشر غير معصومين عن الخطأ في جوهر ما سيتم وصفه لاحقًا باسم “التسامح المعرفي”. فعندما يتم الجمع ما بين الاعتراف بإمكانية وقوع البشر بالخطأ وبين نقد السلطة السياسية والكنسية، تتطور أشكال أكثر قوة من التسامح السياسي.

في هذا السياق، اختتم سبينوزا الأطروحة اللاهوتية والسياسية (1670) الخاصة به بحجة تدعم حرية الفكر. يُذكر أنه من غير المستغرب أن يكتب سبينوزا هذه الأطروحه، لأنه كان هو نفسه نتاج مجتمع متسامح، فقد كان يهوديًا برتغاليًا عاش في هولندا. في الواقع، شهد القرن السابع عشر طفرة في التسامح عمليًا في أجزاء معينة من أوروبا، وربما أتى ذلك نتيجة لزيادة حركة التجارة والحراك الاجتماعي. وقد ركزت حجة سبينوزا للتسامح على ثلاثة مطالب: أولًا، اعتبر أنه من المستحيل للدولة أن تحد بشكل فعّال من حرية الفكر. ثانيًا، رأى أنه من الممكن في الواقع السماح بحرية الفكر من دون المساس بسلطة الدولة. وأخيرًا، قال سبينوزا إنه يجب على السلطة السياسية أن تركز على ضبط الأفعال وليس على تقييد الفكر. يشكل هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل عاملًا مفصليًا في مناقشات لاحقة حول التسامح لدى لوك وميل وكانط.

من الممكن العثور على نسخ مختلفة نوعًا ما من أفكار سبينوزا الأساسية في رسالة في التسامح (1689) الشهيرة للوك، وهي مقالة كتبها هذا الأخير في فترة قبوعه في المنفى في هولندا. تركز حجة لوك تحديدًا على الصراع ما بين السلطة السياسية والمعتقد الديني. وقد صاغ نظرة إلى التسامح تقوم على الادعاء المعرفي بأنه من المستحيل للدولة أن تفرض بالإكراه المعتقد الديني الحقيقي، معتبرًا أنه يتوجب على الدولة أن تمتنع عن التدخل في معتقدات رعاياها الدينية، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. وقد سمح له هذا الاستثناء بأن يستنتج أن الدولة لم تكن بحاجة لأن تتسامح مع الكاثوليكيين الذين كانوا موالين لسلطة أجنبية أو الملحدين الذين جعلهم غياب القناعة الدينية غير جديرين بالثقة على الإطلاق.

     3.3 القرن الثامن عشر

في القرن الثامن عشر، ارتبط النقاش حول التسامح بمشكلة الشك وبنقد أكثر استدامة للاستبداد في السياسة. ففولتير (1694-1778)، الذي عبّر عن إعجابه بتطور التسامح الديني في إنجلترا في كتابه رسائل فلسفية (1734)، كان قلقًا للغاية من ميول الدين لأن يصبح عنيفًا وغير متسامح. إلى جانب ذلك، فقد عانى على يد السلطات الفرنسية غير المتسامحة، إذ أُلقي به في السجن بسبب آرائه وخضعت كتبه للرقابة وجرى إحراقها على العلن. يشكل التسامح الديني موضوع كتابه رسالة في التسامح (1763)، الذي يدافع بقوة عن التسامح على الرغم من أنه ينحاز في الوقت عينه إلى المسيحية. لا بد من الإشارة هنا إلى أنه من الممكن الاطلاع على ملخص موجز حول حجة فولتير المدافعة عن التسامح في مدخل القاموس الفلسفي (1764) الذي وضعه. يرى فولتير أن التسامح ينبع من الضعف والخطأ البشريين. فبما أن لا أحد منا يتمتع بالمعرفة الكاملة، وبما أننا جميعًا ضعفاء ومختلفين وعرضة للتقلب والخطأ، ينبغي على كل منا أن يسامح الآخر على عيوبه. بالتالي يركز نهج فولتير على التسامح على مستوى التفاعل الشخصي وينطوي على خطر الانزلاق نحو التشكيك الأخلاقي والنسبية الأخلاقية، فمثل الفيلسفوف ديفيد هيوم (1711-1777) الذي عاصره، قدم فولتير تحديًا تشكيكيًا بالمعتقد الأرثوذكسي.

أما بالنسبة إلى إيمانويل كانط (1724-1804)، فقد حاول، ردًا على المشككين مثل فولتير وهيوم، تجنب مبدأ التشكيك مع التركيز على حدود المعرفة الإنسانية وحدود السلطة السياسية. وفي مقالته “ما هو التنوير؟” (1784)، دافع كانط عن نوع متنور من السلطة السياسية من شأنه أن يسمح للأفراد بالتجادل فيما بينهم، طالما أنهم لم يخرجوا عن طوع السلطة. ويزيد كانط من توضيح هذا الموقف بوجهة نظره التي عرضها في كتابه السلام الأبدي (1795) والتي تقول بإنه ينبغي السماح للفلاسفة بالتحدث علنًا وتشجيعهم على ذلك. تشير وجهة نظر كانط في هذا المقال الأخير إلى أن الجدال العام والنقاش يؤديان إلى الحقيقة، وأنه ينبغي ألا يخشى الملوك الحقيقة. يُشار إلى أنه يتم توضيح وجهات نظر كانط حول التسامح الديني في كتابه الدين ضمن حدود العقل فقط (1793). ففي هذا الكتاب، يعارض كانط عدم التسامح الديني من خلال الإشارة إلى أنه على الرغم من تيقننا من واجباتنا الأخلاقية، إلا أن البشر ليسوا متيقنين بشكل مؤكد من أوامر الله. وهكذا لا يمكن أبدًا تبرير الاعتقاد الديني الذي يطالب بمخالفة الأخلاق (مثل حرق المهرطقين).

تسد كتابات توماس بين (1737-1809) وتوماس جيفرسون (1743-1826) الفجوة بين العالم القديم والعالم الجديد، إذ تعبر عن نظرية تسامح ترتبط مباشرة بالممارسة السياسية. لا بد من الإشارة هنا إلى أن أفكار بين وجيفرسون اتّبعت نهج أفكار لوك. فلم ينتقدا فقط السلطة السياسية غير المقيدة لكنهما التزما أيضًا بمقاربة مسكونية للاعتقاد الديني معروفة باسم الربوبية. يوضح بين في كتابه حقوق الإنسان (1791) أن التسامح تجاه التنوع الديني أمر ضروري لأن السلطات السياسية والكنسية لا تتمتع بالقدرة على الفصل في المسائل الضمير. “اهتم بأمورك الخاصة. إن كان الشخص لا يعتقد ما تعتقد به، فهذا دليل على أنك لا تعتقد ما يعتقد به، وما من سلطة دنيوية يمكنها الفصل بينكما”. في نهاية القرن الثامن عشر، رأينا الأفكار المتسامحة متجسدة في الممارسة في وثيقة الحقوق التابعة لدستور الولايات المتحدة، أي التعديلات العشرة الأولى على الدستور (التي تمت المصادقة عليها في العام 1791). بشكل جماعي أدت هذه التعديلات إلى كبح جماح السلطة السياسية. على وجه التحديد، ينص التعديل الأول على عدم وجود أي قانون يحظر حرية الدين وحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية التجمع وحرية تقديم عريضة إلى الحكومة. وقد أدت التطورات اللاحقة في القانون الدستوري الأمريكي إلى إقامة تقليد يقوم على احترام حرية المواطنين في الفكر والتعبير والعمل.

     3.4 القرن التاسع عشر

في القرن التاسع عشر، تم تطوير فكرة التسامح بشكل يتماشى أكثر مع الفكرة الليبرالية حول التنوير التي تقول بإن الاستقلالية الأخلاقية ضرورية لازدهار الإنسان. وقد قدم جون ستيوارت ميل الحجة الأكثر شهرة في القرن التاسع عشر في الدفاع عن التسامح في كتابه في الحرية (1859). يعتبر ميل في هذا الكتاب أن الحد الصحيح الوحيد للحرية هو الضرر، فيحق للمرء أن يكون حرًا قدر الإمكان، إلا إذا كانت حريته تشكل تهديدًا على رفاه شخص آخر: “يكمن الغرض الوحيد لممارسة السلطة بشكل صحيح على أي عضو في مجتمع متحضر، رغم إرادته، في الحؤول دون إلحاق الأذى بالآخرين”.

هذا ويوسع ميل من مفهوم الخصوصية الذي كان ضمنيًا لدى لوك وكانط ليعتبر أنه يجب ألا تتحلى السلطة السياسية بسلطة لتنظيم نشاطات الأفراد ومصالحهم التي هي خاصة بشكل بحت وليس لها أي آثار ثانوية على الآخرين. كما ويدافع ميل وبقوة عن أن حرية الفكر أمر ضروري لتطوير المعرفة. ويُذكر أن النهج العام لميل يتبع مذهب المنفعية: إذ يعتبر أن الأفراد يكونون أكثر سعادة إذا ما تم التسامح مع اختلافاتهم الخاصة وأن المجتمع بشكل عام يكون أفضل حالًا إذا ما تُرك الأفراد لتحقيق مصالحتهم بطريقتهم الخاصة.

في القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين، كان التسامح الديني يشكل أيضًا موضوعًا للدراسة بالنسبة إلى المفكرين مثل سورين كيركيغارد (1813-1855)، ورالف والدو إمرسون (1803-1882)، وويليام جيمس (1842-1910)، الذين أكدوا على الطبيعة الشخصية للإيمان الديني. على سبيل المثال، في بحثه بعنوان أصناف من التجربة الدينية (1902)، قال جيمس إن التجربة الدينية متنوعة وليست خاضعة لتفسير حتمي. وعلى الرغم من أن هذا يتناسب مع الالتزام الميتافيزيقي الأكبر لجيمس بالتعددية، إلا أن وجهة نظره تقوم على أن الالتزام الديني شخصي، وهو يتعلق بما يسميه في مقال آخر “إرادة الاعتقاد”. يعود الأمر لكل فرد بأن يقرر بنفسه معتقداته: إذا فهمنا بشكل صحيح طبيعة المعتقد الديني، يجب علينا احترام حرية الآخرين الدينية، وتعلم كيفية التسامح مع خلافاتنا.

     3.5 القرن العشرون

في القرن العشرين أصبح التسامح يشكل عنصرًا هامًا من عناصر ما يعرف في الوقت الحالي باسم النظرية الليبرالية. فالتاريخ الدموي للقرن العشرين دفع بالكثيرين إلى الاعتقاد بأن هناك حاجة إلى التسامح لإنهاء العنف السياسي والديني. وقد دافع عن التسامح الفلاسفة الليبراليون والمنظرون السياسيون مثل جون ديوي وأشعيا برلين وكارل بوبر ومايكل والزر ورونالد دوركين وجون رولس. من ناحية أخرى لقيت هذه النظرية انتقادات من هربرت ماركوز، وغيره مثل أيريس يونغ، من الذين يشعرون بالقلق من أن يكون التسامح ووضعه المثالي كحياد الدولة هو مجرد أيديولوجية غربية أخرى مهيمنة. إلى جانب ذلك كان التسامح موضوعًا صريحًا للعديد من الأعمال التي صدرت مؤخرًا في الفلسفة السياسية بقلم سوزن مندوس وجون هورتون وبريستون كينغ وبرنارد ويليامز. هذا وتركز معظم النقاشات الحالية على الرد على جون رولس، الذي يعتبر في نظريته حول “الليبرالية السياسية” أن التسامح هو رد عملي على حقيقة التنوع (انظر “التسامح السياسي” أدناه). يُذكر أن السؤال الذي يتكرر في النقاش الدائر حاليًا يتركز حول ما إذا كان من الممكن وجود التزام أكبر بالتسامح لا يؤدي إلى النتيجة المتناقضة التي تقول بإنه يجب على المتسامح أن يتسامح مع أولئك غير المتسامحين.

وفي إطار المزيد من المناقشات التي دارت مؤخرًا، حاول ديفيد هايد وغلين نيوي وغيرهم إعادة إقامة العلاقة بين التسامح والفضيلة. إذ تساءل هؤلاء الكتّاب عما إذا كان التسامح هو في الحقيقة فضيلة، وإذا كان الأمر كذلك، أي نوع من الفضيلة هو. هذا وأدى الاهتمام بالمساواة العرقية والحياد بين الجنسين وإنهاء التحيز واحترام الاختلاف الثقافي والعرقي والتزام العام بالتعددية الثقافية إلى تغذية المناقشات الجارية حول طبيعة التسامح في عصرنا هذا، عصر العولمة والتجانس. أخيرًا، تم في الولايات المتحدة تطوير قانون التعديل الأول للسماح بالفكرة واسعة النطاق لحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية الدين. وتحت تأثير تفسير بند الحماية المتساوية في التعديل الرابع عشر للدستور، قدمت الآليات لضمان المساواة الدعم لتلك الأقليات التي كانت من قبل ضحية للتعصب السياسي.

4 التسامح المعرفي

يمكن تتبع الحجة المعرفية المدافعة عن التسامح وصولًا إلى سقراط. لكن يصبح هذا المفهوم المثالي صريحًا في تفكير ميلتون ولوك وميل. وفق الحجة المعرفية ينبغي على المرء أن يتسامح مع آراء الآخر ومعتقداته إما لأنه من المستحيل إجبار الآخر على الاعتقاد وإما لأن مثل هذا الإكراه لا يُعتبر الأسلوب التعليمي الأكثر إفادة. يمكن تطوير هذه الفكرة لتصبح حجة تخدم أهمية التنوع والحوار والنقاش لإقرار الحقيقة. وأخيرًا، قد تؤدي هذه المقاربة إلى شكل من أشكال النسبية أو الشك من شأنه أن يعرّض فكرة التسامح نفسها للخطر.

     4.1 سقراط

يمكن اكتشاف التسامح السقراطي إذا أخذنا على محمل الجد مزاعم سقراط حول الجهل. فالجهل وفق سقراط يرتبط بالفضائل، مثل ضبط النفس والتواضع والتسامح. فهذه الفضائل هي عناصر أساسية في تشكيل المجتمع الفلسفي والسعي وراء الحقيقة الفلسفية. ففي حوارات أفلاطون يقيّد سقراط نفسه عمدًا، إذ يدّعي الجهل بتواضع ويسمح للآخرين بتطوير مواقفهم وارتكاب أخطائهم الخاصة، اعترافًا منه بأن هذه هي الطريقة الأفضل، وربما الوحيدة، للمضي قدمًا في السعي الجماعي للوصول إلى الحقيقة. يتجلى هدف سقراط الرئيسي في اكتشاف الحقيقة من خلال النقاش مفتوح الأفق. ولكن لن يكون هناك أي حوار، وبالتالي أي تعليم، من دون التسامح. يشكل التزام سقراط بالتسامح جزءًا من إيمانه المعرفي باستقلالية العقل. بالتالي، لا بد لنا من اكتشاف الحقيقة بأنفسنا عن طريق حوار منضبط ومتواضع ومتسامح.

     4.2 ميلتون

بعد قرون لاحقة، قدم كتاب جون ميلتون أيروباجيتيكا (1644) دفاعًا شبيهًا عن الحقيقة. إذ دافع هذا الأخير بقوة عن حرية التعبير ردًا على قرار الرقابة الذي صدر عن البرلمان الإنجليزي. ويعتمد دفاعه على الحجة المعرفية التي تعتبر أن الحوار المفتوح المدعوم من حكومة متسامحة يعزز من تطور الحقيقة. يقوم الافتراض الأساسي لميلتون على أن الحقيقة قادرة على الدفاع عن نفسها في نقاش حر. “فلندع الحق والباطل يتنازعان، هل عرف أحد أبدًا أن الحقيقة تُهزم في لقاء حر ومفتوح؟” ويتابع ميلتون قائلًا إن التماشي الخارجي مع الأرثذوكسية ليس هو نفسه الإيمان الحقيقي.

     4.3 لوك

قام لوك بتوسيع هذه الأفكار في كتابه رسالة في التسامح. حيث رأى أنه تعيّن على السلطات المدنية والكنسية التسامح مع تنوع العقيدة لأن الإنسان لا يستطيع أن يجبر إنسانًا آخر على التحلي بالإيمان. وفي إطار حجة تُذكّر بميلتون، يقول لوك إن “الحقيقة بالتأكيد ستؤدي عملًا جيدًا بما فيه الكفاية إذا تُركت لتعدل بنفسها … هي لا تُدرّس من خلال القوانين، وهي ليست بحاجة إلى القوة لتأمين دخولها إلى عقل الإنسان”. وذلك لأن سلطة الحكم تكمن داخل الفرد الحر. فمن المستحيل إجبار شخص ما على أن يعتقد بأمر لأسباب خارجية. بدلًا من ذلك، يجب التوصل إلى الحقيقة والاعتقاد بها لأسباب داخلية.

تشكّل هذه الحجة المعرفية النقطة المحورية للنقد الذي وجهه جيريمي والدرون مؤخرًا للوك. إذ يعتبر والدرون أن حجة لوك ضعيفة لأنها تعتمد على الافتراض الخاطئ بأنه لا يمكن فرض المعتقدات بالإكراه. تكمن الفكرة في أننا كثيرًا ما نعتقد بصدق بأمور من دون أي سبب وجيه على الإطلاق. إضافة إلى ذلك، يقول والدرون إن الحجة المعرفية ضعيفة جدًا لتضع حدًا أخلاقيًا على الإكراه. على الرغم من أن الإكراه لا يمكن أن يؤدي إلى إيمان حقيقي، إلا أن نظامًا غير متسامح قد لا يكون مهتمًا بترسيخ إيمان حقيقي. وقد يكون مهتمًا ببساطة في تأمين التجانس. إن وجهة نظر والدرون هامة: فالنقد المعرفي مفيد فقط إذا كان المرء ملتزمًا بالادعاء بأن الإيمان الحقيقي في الواقع يشكل قيمة سياسية أو أخلاقية هامة. فيجب على الحجة المعرفية للتسامح ألا تدعي فقط أنه من غير العملي أو من المستحيل فرض العقيدة على الآخرين، ولكن أيضًا أنه علينا أن نقدّر الالتزام الحقيقي أكثر من مجرد التجانس.

     4.4 ميل

الحجة المعرفية التي قدمها ميل مشابهة تمامًا لوجهة نظر لوك، على الرغم من أن ميل يتخطى الدعوة إلى حرية التعبير بصفتها ضرورية لاكتشاف الحقيقة. تبدأ الحجة المعرفية التي يعرضها ميل بافتراض أن الأفراد يدركون بشكل أفضل ما هو جيد بالنسبة إليهم. على الرغم من أن هذا الادعاء يتعارض مع الحجة الأفلاطونية التقليدية بأن الأفراد غالبًا ما لا يدركون ما يصب في مصلحتهم، إلا أن ميل يدعم رأيه من خلال الإشارة إلى أن الفرد لديه دائمًا أفضل إمكانية للوصول إلى مصالحه ورغباته الخاصة، إذ لا يملك الآخرون إمكانية الوصول إلى أنواع الأدلة الداخلية التي من شأنها أن تسمح لهم بالحكم نيابة عن الفرد. لا بد من الإشارة إلى أن ميل لا يساوي مشكلة إمكانية الوصول هذه مع النسبية. في الواقع، في مقالته بعنوان النفعية (1863)، قدم ميل دفاعه الشهير عن تسلسل الخير يقوم على حقيقة أن أولئك الذين اختبروا الخير “الأقل” و”الأعلى” سيفضلون الأعلى (على سبيل المثال، “أن يكون المرء سقراطًا غير راضٍ أفضل من أن يكون أحمقًا راضيًا”). هذا وتبقى الحجة المعرفية نفسها هنا، لكن يعود للفرد أن يحكم بنفسه على ما هو جيد بالنسبة إليه.

إلى جانب ذلك تستند الحجة العامة لميل حول حرية الفكر على الاعتراف بقابلية الخطأ البشري وعلى الحاجة للحوار والنقاش. أما حجة ميل حول حرية الفكر في كتابه في الحرية فتشمل الادعاءات التالية: (1) قد تكون الآراء الصامتة صحيحة. إن افترضنا أنها ليست كذلك فهذا يعني أن نفترض أننا معصومون عن الخطأ. (2) حتى الآراء الخاطئة قد تحتوي على نقاط يمكن معارضتها وأجزاء من الحقيقة. من أجل معرفة الحقيقة كاملة قد يتوجب علينا أن نحيك أجزاءً مختلفة من الحقيقة من مصادر مختلفة. إن ادعاء معرفة الحقيقة يعني أننا قادرون على الدفاع عنها ضد كل الآراء المعارضة بقوة. بالتالي نحن بحاجة إلى أن نكون قادرين على سماع الآراء الخاطئة والرد عليها من أجل معرفة كافة حجج الاقتراح. (4) إن الحقيقة غير المتنازع عليها بشكل مستمر وبقوة تمسي مجرد خرافة. بالتالي قد تنهار مثل هذه الخرافات القائمة بشكل دوغماتي حتى قبل المعارضة الضعيفة ولن يتم الاعتقاد بها أو المدافعة عنها من القلب.

     4.5 مشكلة النسبية

مثل سقراط، وصل ميل ولوك إلى مفهوم التسامح من خلال فهم غير نسبي للعقيدة والحقيقة. بيد أنه، تحت العنوان العريض للتسامح المعرفي قد نُدرج أيضًا نوع التسامح الذي ينبع من الشك أو النسبية. بالنسبة إلى متبعي النهج التشكيكي أو النسبي، وبما أننا لا نستطيع أن نعرف الحقيقة أو بما أن كل الحقائق نسبية، يتعين علينا أن نكون متسامحين مع أولئك الذين يتمتعون بوجهات نظر مختلفة. في هذا الإطار، صاغ الفيلسوف الأمريكي المعاصر ريتشارد رورتي حجة من هذا القبيل. المشكلة في هذه المقاربة هي نفسها المشكلة مع كافة أنواع الشك والنسبية: فإما تؤدي الحجة إلى تقويض نفسها بنفسها أو إنها لا توفر لنا أي سبب مقنع لتصديقها. فإن كنا نشكك في المعرفة، ليس لدينا أي وسيلة لمعرفة أن التسامح جيد. بالمثل، إذا كانت الحقيقة نسبية وفق نظام الفكر، فإن الادعاء بأن هناك حاجة للتسامح هو بحد ذاته مجرد مطالبة مبررة نسبيًا. إن شكل التسامح المعرفي الذي دافع عنه ميل، على الأقل، يحاول تجنب هذه المشاكل من خلال الدعوة إلى شكل من أشكال التخطيئية ليس تشكيكًا ولا نسبيًا تمامًا. لا تقوم وجهة نظر ميل على عدم وجود الحقيقة، بل على أننا بحاجة إلى التسامح من أجل معرفة الحقيقة.

5 التسامح الأخلاقي

لقد رأينا أن الاهتمامات المعرفية يمكن أن تقودنا إلى التسامح. من جانبها، يمكن للاهتمامات الأخلاقية أن تؤدي بنا أيضًا إلى التسامح. إلى جانب ذلك، من الممكن ربط التسامح باعتباره فضيلة أخلاقية بالفضائل الأخلاقية الأخرى مثل التواضع وضبط النفس. مع ذلك، فإن القيمة الأخلاقية الأكثر شيوعًا التي يُعتقد أنها تشكل أساسًا للتسامح هي الاهتمام بالاستقلالية. إذ علينا الامتناع عن رفض الآخر عندما يوفر لنا الاهتمام باستقلالية الآخر سببًا وجيهًا لعدم التحرك. هذا ولا ينبغي الخلط ما بين التسامح الذي ينبع من الالتزام بالاستقلالية وما بين النسبية الأخلاقية. فالنسبية الأخلاقية ترتب أن القيم نسبية وفق الثقافة أو السياق. في المقابل، فإن الالتزام بالاستقلالية يرتب أن الاستقلالية جيدة من منظور غير نسبي. قد يتطلب الالتزام بالاستقلالية أن أسمح لشخص آخر بأن يقوم بعمل أعتبره بغيضًا، وهذا ليس لأنني أعتقد أن القيم نسبية، ولكن لأنني أعتقد أن الاستقلالية مهمة للغاية بحيث تتطلب مني الامتناع عن رفض العمل المستقل لفرد آخر حر. بالطبع، هناك حدود في هذا الإطار. فلا يمكن السكوت عن العمل المستقل الذي ينتهك استقلالية الآخر. إن التفسير الذي يقدمه ميل لمبدأ الحرية مفيد لفهم فكرة التسامح هذه. إذ يقول بإنه يجب أن نُمنح أكبر قدر ممكن من الحرية، طالما أن حريتنا لا تؤذي الآخرين. وهذه هي في الواقع صيغةً للتسامح. يُذكر أن حجة ميل تقوم على بعض الافتراضات الأساسية حول الأفراد.

  1. لكل فرد إرادة خاصة به.
  2. كل فرد أفضل حالًا عندما لا يكون مرغمًا على القيام بعمل أفضل.
  3. كل فرد يدرك ما هو جيد بالنسبة إليه.
  4. كل فرد لديه دافع لتحقيق مصلحته وتجنب الأعمال التي تتعارض مع مصلحته الذاتية.
  5. يمكن تمييز الفكر والنشاط المتعلق بالذات من آثاره على الآخرين.

ترتبط بعض من هذه الحجج (رقم 3 على سبيل المثال) بالتسامح المعرفي. مع ذلك، فإن الفكرة هنا لا تكمن فقط في أن الأفراد يدركون ما يصب بمصلحتهم الذاتية ولكن أيضًا في أنه من الجيد بالنسبة للأفراد أن يكونوا قادرين على السعي وراء مصلحتهم بطريقتهم الخاصة. تطرح مثل هذه المقاربة العديد من الفرضيات الميتافيزيقية الهامة حول طبيعة الكائن البشري: أن الاستقلالية ممكنة ومهمة، وأن الأفراد يعرفون مصلحتهم الخاصة، وأن هناك فرق بين العمل الخاص بالذات والأعمال التي تؤثر على الآخرين. ينبع التسامح الأخلاقي من هذه الأنواع من الادعاءات حول الإنسان.

     5.1 مفارقة التسامح

من المؤكد أن التسامح واحترام الاستقلالية ليست بالأفكار البسيطة. إذ قيل الكثير عما يُسمى بـ”مفارقة للتسامح”: حقيقة أنه يبدو أن التسامح يرتب علينا أن نتسامح مع تلك الأشياء التي نجدها غير قابلة للتسامح. يتطلب التسامح أن نمتنع عن تحويل العواقب السلبية للأحكام السلبية التي نصدرها إلى أفعال. بالتالي، يطرح ذلك مفارقة عندما نجد أنفسنا في مواجهة أشخاص أو مواقف أو سلوكيات نرفضها بقوة: عندئذ يجب علينا أن نتسامح مع ما نعتبره غير قابل للتسامح، مما يشكل مفارقة. هذا يصبح من الصعب لاسيما عندما يعبر الآخر الذي يجب التسامح معه عن آراء أو يقوم بأنشطة هي بحد ذاتها غير متسامحة.

تتجلى إحدى الطرق لحل هذه المفارقة في أن ندرك الفرق بين الأحكام الأولية والالتزامات الأخلاقية الثانوية. تشمل الأحكام الأولية ردود الفعل العاطفية والأحكام العملية الأخرى التي تركز على السلوكيات والمواقف الحسية والمعينة. أما الالتزامات الأخلاقية الثانوية فتشمل أحكامًا أكثر تعقيدًا هدفها يتعدى العاطفة والخصوصية ليصل إلى المبادئ العالمية العقلانية. وفيما يخ مفارقة التسامح يبرز تعارض بين رد الفعل الأولي ضد أمر ما وبين الالتزام الثانوي بمبدأ احترام الاستقلالية أو بفضيلة التواضع أو ضبط النفس. من هنا، يتم حل هذه المفارقة من خلال الاعتراف بأن هذا الالتزام الثانوي يفوق رد الفعل الأولي: إذ من المفترض أن يتفوق المبدأ على العاطفة. بالتالي قد نتمتع بأسباب وجيهة (استنادًا إلى التزاماتنا الثانوية) للامتناع عن بعد المتابعة تجاه العواقب الطبيعية للأحكام الأولية السلبية. مع ذلك، عندما يبرز صراع حقيقي بين الالتزامات الثانوية، أي عندما يواجه الالتزام المتسامح بالاستقلالية الرفض غير المتسامح للاستقلالية، فلا حاجة حينئذ للتسامح. بعبارة أخرى يتم حل المفارقة هذه عندما ندرك أن التسامح ليس التزامًا بالنسبية، بل هو التزام بقيمة الاستقلالية وبالتمييز بين الأحكام الأولية والالتزامات الأخلاقية الثانوية.

     5.2 التسامح مقابل اللامبالاة

بالطبع، من الصعب تطبيق التسامح بشكله المثالي. وترتبط هذه الصعوبة بالعلاقة المتوترة بين ردود الفعل الأولية والالتزامات الثانوية الموجودة داخل النظام الروحي للفرد. هنا تكمن أهمية فكرة التسامح كفضيلة. فالفضائل هي ميول أو عادات تجاه العمل الخيّر. وفي حالة فضيلة التسامح، فالاتجاه هو نحو احترام استقلالية الآخرين ونحو الانضباط الذاتي الضروري لكبح ردود الفعل الأولية عمدًا. وعادة ما يُعتقد أن الفضائل مندرجة في إطار نظام من الفضائل. ولا يشكل التسامح استثناءً في هذه الحالة. ففضيلة التسامح ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفضائل الأخرى مثل ضبط النفس والتواضع والكرم والعطف والرحمة والمغفرة. لذا يترتب على المرء أن يكون حذرًا، بيد أنه يجب ألا نستنتج أن فضيلة التسامح تشكل ميلًا نحو اللامبالاة أو عدم الاهتمام. يتطلب التسامح منا أن نكبح عواطفنا ونسيطر عليها في ضوء نوع من الخير الأكبر، سواء أكان ذلك الخير احترامًا للاستقلالية أو اهتمامًا بضبط النفس، فإن التسامح لا يتطلب أن نمتنع تمامًا عن الحكم على فرد حر آخر.

يتطلب منا التسامح الأخلاقي كبح جماح بعض ردود الفعل الأولية الأقوى لدينا: ردود الفعل السلبية تجاه الأشخاص والمواقف والسلوكيات التي نجدها غير محببة. من دون العلاقة المتوترة بين ردود الفعل الأولية والالتزام الثانوي، يكون التسامح هو مجرد لامبالاة. وعادة ما تشير اللامبالاة إلى فشل على مستوى الحكم الأولي: فعندما نكون غير مبالين، لا نقوم بأي رد فعل، سلبي أو إيجابي، نحو الآخر. إلا أن مثل هذه الحالة من اللامبالاة ليست فاضلة. في الواقع، سيكون من السيء والخطأ عدم الرد بقوة على الظلم أو انتهاكات الاستقلالية.

غالبًا ما نخلط ما بين عدم المبالاة والتسامح. مع ذلك، يتم النظر إلى اللامبالاة بشكل معيب كرد فعل من الإنسان لسببين. أولًا، هي ترفض حقيقة ردود الفعل الأولية. إذ لا ينبغي تجاهل ردود الفعل الأولية. فاستجاباتنا العاطفية تشكل سبلاً هامة نتواصل من خلالها مع العالم من حولنا. بالتالي، عندما يكون ردنا سلبيًا على أمر ما، يوفر رد الفعل العاطفي هذا معلومات هامة حول العالم وحول أنفسنا. لا يطلب التسامح منا قمع استجاباتنا العاطفية تجاه الآخرين، بل يتطلب منا كبح الآثار السلبية لاستجاباتنا العاطفية السلبية احترامًا لمجموعة من الالتزامات أكثر عمومية. ثانيًا، غالبًا ما ترتبط اللامبالاة ارتباطًا وثيقًا بالشك العام حول الحكم الأخلاقي. يدّعي المشككون الأخلاقيون بعدم وجود مجموعة صحيحة من القيم. من هذا المنظور، فإن ردود الفعل الأولية والالتزامات الثانوية هي مجرد أذواق أو تفضيلات من دون أي أهمية أخلاقية نهائية. انطلاقًا من هذا الشك، يتم صقل اللامبالاة المتعلقة بأي تقييم أخلاقي لأنه يُعتقد أن جميع قيمنا الأخلاقية لا أساس لها. تكمن الصعوبة هنا في أن الشك الأخلاقي لا يمكن أن يؤدي إلى الاستنتاج القائل بأنه من الجيد أن نكون متسامحين، بما أن المشككين يعتبرون أنه لا يمكن تبرير أي قيمة أخلاقية. وإن ادعينا أن التسامح جيد وأن التسامح هو الفضيلة، لا يمكن للتسامح أن يكون نفسه للامبالاة.

هذا التمييز ما بين التسامح واللامبالاة مهم لشرح التعطيل الروحي الذي يحدث عندما نسعى لأن نكون متسامحين. في الواقع، يمكن فهم صعوبة التسامح من حيث صعوبة الطريق الوسطي بين اللامبالاة والاعتقادية. فاللامبالاة سهلة ومرضية لأنها تحررنا، بشكلٍ ما، من مهمة الإنسان الصعبة القائم على الحكم. بالمثل، فإن الاعتقادية سهلة ومرضية لأنها تنبع من تركيبة سلسة من الاستجابات الأولية والالتزامات الثانوية. يُعتبر التسامح الطريق الوسطي الذي يدور فيه صراع بين الاستجابات الأولية والالتزامات الثانوية. بالتالي فإن التسامح يتطلب وعيًا ذاتيًا وضبطًا للنفس من أجل التنسيق بين الأجزاء المتضاربة من النظام الروحي. هذا ويشكل الانضباط اللازم للتسامح جزءًا من أي فكرة تعليم: علينا أن نتعلم أن ننأى بأنفسنا عن الاستجابات الأولية من من أجل المضي نحو مبادئ عامة. فغالبًا ما تكون الاستجابات الأولية خاطئة أو غير كاملة، شأنها شأن التصورات الفورية للشعور. مع ذلك لا يتطلب التعليم منا أن نتخلى عن الاستجابات الأولية أو تصورات الشعور. بدلًا من ذلك، يطلب منا أن نكون منضبطين وناقدين للذات، حتى نتمكن من السيطرة على الاستجابات الأولية من أجل إعلاء مبادئ أكثر أهمية.

6 التسامح السياسي

يشدد التسامح الأخلاقي على الالتزام الأخلاقي بقيمة الاستقلالية. وعلى الرغم من ارتباطه، وفق ميل، على سبيل المثال بفكرة سياسية حول ضبط سلطة الدولة، إلا أن التسامح الأخلاقي يهتم في نهاية المطاف بتوضيح المبدأ الثانوي الذي من المفترض أن يؤدي إلى التسامح.

في حين يتمحور التسامح الأخلاقي حول العلاقات بين الأفراد، يرتكز التسامح السياسي على ضبط السلطة السياسية. في هذا الإطار، عادة لا يُعتقد أن الدولة الليبرالية الحديثة هي فرد أخلاقي. بدلًا من ذلك، يفترض أن الدولة شبيهة بحَكم من طرف ثالث: ولا يُعتقد أنها من الأطراف المنخرطة مباشرة في عملية الحكم والرفض. بالتالي، فإن التسامح السياسي تسامح مثالي يقوم على الفكرة التي تقول بإنه ينبغي على الحكم السياسي أن يكون محايدًا وغير متحيز. وقد تم استخدام مصطلح التسامح، منذ أن استخدمه لوك، في هذا السياق السياسي لوصف مبدأ حياد الدولة. يمكن فهم العلاقة بين التسامح الأخلاقي والسياسي من حيث تاريخ حقبة ما قبل الحداثة عندما كانت الدولة فردًا، أي ملكًا على سبيل المثال، تتمتع بأحكام معينة وبسلطة الرفض. وبما أن فكرة الدولة تطورت منذ القرن السابع عشر نحو مفاهيم ديمقراطية ليبرالية حول الحكم الذاتي والحقوق المدنية، فقد تطورت فكرة التسامح السياسي لتعني أمرًا مماثلًا للامبالاة الدولة. أما الآن فيُعتقد أن التسامح السياسي يشمل احترام الخصوصية، والفصل ما بين الكنيسة والدولة، واحترامًا عامًا لحقوق الإنسان.

     6.1 جون رولس

في القرن العشرين، تم تطوير فكرة التسامح السياسي، لا سيما تحت تأثير جون رولس (1921-2002) وكتابيه نظرية العدالة (1971) والليبرالية السياسية (1995). يُذكر أن مقاربة رولس تحاول أن تكون محايدة تجاه القيم الأخلاقية من أجل إرساء المبادئ السياسية للتسامح. يدافع رولس عن التسامح بطريقة عملية أي بالطريقة التي تؤدي بأفضل شكل إلى تحقيق الوحدة السياسية وفكرة العدالة بين الأفراد المختلفين. على الرغم من أن جون رولس كان من أكثر المدافعين بقوة عن فكرة التسامح السياسي، إلا أن هذه الفكرة تشكل أيضًا أساسًا للاعتبارات الواقعية والسياسية الأخرى للتسامح، بما في ذلك وجهات نظر جون ديوي ويورغن هابرماس ومايكل والزر وريتشارد رورتي. أما الخطر في هذه المقاربة فيكمن في أنها تميل نحو النسبية من خلال الحد بوعٍ ذاتي من تعبيرها عن دفاع ميتافيزيقي عن الاستقلالية والتسامح. هذا وتكمن الصعوبة هنا في أن فكرة حياد الدولة يمكن أن تشكل مفارقة: دولة محايدة تجاه كل شيء تقوّض من وجود نفسها بنفسها.

تبدأ فكرة التسامح السياسي من الادعاء بأن الأفراد المختلفين سيتسامحون مع بعضهم البعض من خلال تطوير ما يُسميه رولس بـ”الاجماع المتداخل”: يجد الأفراد والجماعات ذوي وجهات نظر ميتافيزيقية أو مخططات شاملة متنوعة أسبابًا للاتفاق حول مبادئ معينة للعدالة تتضمن مبادئ التسامح. تشكل هذه الحجة في جزء منها حجة تجريبية أو تاريخية حول الطريقة التي تحل من خلالها الجماعات المختلفة أو الأفراد المختلفين خلافاتهم في نهاية المطاف عن طريق التزام عملي بالتسامح باعتباره أسلوب حياة، أو وسيلة من وسائل الحياة. يُذكر أنه يمكن تتبع هذه الفكرة وصولًا إلى فكرة هوبز حول العقد الاجتماعي باعتباره معاهدة سلام. فوفق الحجة التي يقدمها هوبز في كتابه لوياثان (1651)، يشارك الأفراد المختلفين في الحالة الأصلية، في حرب الجميع ضد الجميع. في نهاية المطاف لا تكون هذه الحرب مرضية وبالتالي يتخلى الأفراد عن سلطة التحارب ويخلقون العقد الاجتماعي. تكمن المشكلة هنا في أن هذا التفسير العملي يتركنا من دون مبرر ميتافيزيقي لمبادئ التسامح. بدلًا من ذلك فهو يقارب التسامح من خلال افتراض عملي بأن الأفراد المختلفين يوافقون، بدافع المصلحة الذاتية، على دعم دولة الحياد، التي يُفترض بها بعد ذلك أن تؤدي دور الحكم في نزاعاتهم. بالطبع، يدعو تفسير هوبز للسيادة المطلقة للتنين إلى التشكيك في فكرة أن منظور العقد الاجتماعي سيؤدي دائمًا إلى دولة ليبرالية متسامحة.

تحاول فكرة رولس حول “العدالة كإنصاف” وضع حدود للسلطة السياسية من دون محاولة تقييم المزايا النسبية للمفاهيم المختلفة للخير. هذا ويوضح رولس مقاربته من خلال الإصرار على أن مبادئ العدالة هي مبادئ سياسية وليست أخلاقية. وهي تستند على ما وصفه بـ “التعددية المعقولة”. ما يعنيه هنا هو أن الأفراد من وجهات نظر متنوعة سيتفقون على مبادئ التسامح لأن هذه المبادئ ستبدو معقولة لكل فرد على الرغم من اختلافاتهم. تنتج فكرة التسامح عن اجماع سياسي تم تطويره عن طريق العقد الاجتماعي المثالي الذي وصفه رولس مطولًا في كتاب نظرية العدالة. وكما نظرية ميل، تدعي نظرية رولس حول العدالة بأن المبدأ الأول للعدالة هو مبدأ الحرية: “لكل شخص حق متساوٍ بمخطط مناسب تمامًا للحريات الأساسية المتساوية والذي يتوافق مع مخطط مماثل للحريات للجميع”. وتشكل هذه الحريات المدنية الأساسية أساسًا للتسامح السياسي.

     6.2 المخاطر والفوائد

تركز الليبرالية السياسية على مشكلة التنوع من دون الدعوة إلى نظرية ميتافيزيقية أوسع. وتتفاقم هذه المشكلة عندما تعالج الليبرالية السياسية مسألة حقوق الإنسان الدولية ومشكلة الجماعات غير المتسامحة أو الأفراد الذين يطالبون بالتسامح. وتهدف الليبرالية السياسية إلى إنشاء نظام عالمي لحقوق الإنسان من المفترض أن يدعم الدول المتسامحة سياسيًا ويكون حساحسًا تجاه قضية حقوق الجماعات. من منظور الليبرالية السياسية، يُعتقد أن حقوق الإنسان، التي تشكل الدفاعات الأساسية ضد توسيع سلطة الدولة بشكل غير متسامح، تأتي نتيجة لاجماع سياسي متداخل. من هذا المنظور، يُعتقد أن حقوق الإنسان، مثل الحق في الاستقلالية الذي يشكل أساس التسامح الأخلاقي، ليست معطيات ميتافيزيقية بل هي الشروط اللازمة لإمكانية بناء إجماع سياسي.

في خمسينات القرن العشرين فصّل جاك ماريتان فكرة تطوير “الاجماع المتداخل” في الشؤون الدولية، ووضعت هذه الفكرة قيد الممارسة العملية من قبل الوكالات الدولية مثل الأمم المتحدة. وفي العقد الأخير من القرن العشرين، ربطت مقاربة يورغن هابرماس مبادئ التسامح بطبيعة الجدل السياسي بحد ذاته: حتى يكون لدينا جدل سياسي، يجب أن نتفق على مبادئ معينة للنقاش العادل. تكمن الصعوبة هنا في أن التنوع يطرح مشكلة أكبر حتى على الساحة الدولية، حيث الناقشات حول حقوق الإنسان جوهرية. أما على المستويين المحلي أو الوطني، فإن فكرة الليبرالية تحتم أنه لا ينبغي على الدولة المحايدة التدخل في نوعية حياة الأفراد أو التعليق عليها ما لم تكن حياة الأفراد وتصرفاتهم الخاصة أمست تشكل خطرًا على حقوق الأفراد الآخرين وخصوصيتهم. دوليًا، يتّبع رولس منهج كانت في تحديد قانون الشعوب الذي من المفترض أن يحافظ على النظام بين الدول المختلفة والمتسامحة بشكل متبادل.

هذا وتنشأ المزيد من التعقيدات على مستوى حقوق الجماعات (سواء في السياسة الوطنية أو الدولية)، حيث تطالب الجماعات وأعضاؤها بالحق في أن تتسامح معها المنظمات السياسية الأكبر. هنا قد تؤدي فكرة التسامح مع ممارسات الجماعات وهوياتها، وسط مفارقة، إلى التسامح مع الجماعات غير المتسامحة. هذا هو الحال على سبيل المثال عندما تأخذ الحكومات المتسامحة الجماعات التي تدعو إلى العنف والتمييز والممارسات غير المتسامحة بعين الاعتبار. فمثل هذه الجماعات قد تكون غير متسامحة مع أعضائها، أو مع المجتمعات الليبرالية المتسامحة التي تخضع لها، وبالطبع مع تلك المنظمات الدولية التي تدعم التسامح في جميع أنحاء العالم.

يكمن خطر الليبرالية السياسية في أنها تتأرجح بصعوبة بين التعددية والنسبية، فيما تسعى إلى تجنب الاعتقادية الميتافيزيقية أو الإمبريالية السياسية. تدعم التعددية الأساسية لليبرالية السياسية التسامح السياسي من خلال الاعتراف بأنه يمكن تبرير كل من العقائد الشاملة المتضاربة على أنها معقولة وفقًا لمعايير داخلية بالنسبة إليها. مما يتركنا أمام صراعات التعددية المعقولة: كل من العقائد الشاملة المتضاربة معقولة وفق خصائصها لدرجة أنها تعترف بمعقولية العقائد الشاملة الأخرى. هكذا، فإن التعاون بين العقائد الشاملة المعقولة، وفق رولس، يشكل مهمة سياسية عملية. كما وينبغي أن تمتنع الدولة عن الدخول في نقاش فيه العقيدة الشاملة أفضل من الناحية الأخلاقية أو المعرفية أو الميتافيزيقية بكل بساطة لأن مثل هذا النقاش سيكون ظالمًا بالنسبة إلى دولة محايدة في مواجهة واقع التنوع. من خلال تحديد شرحه لحياد الدولة بأنه سياسي، يريد رولس أن يبعد شرحه حول التعددية المعقولة عن شكل أكثر قوة من الشك الفلسفي. مما يذكرنا بمقاربة لوك للتسامح المعرفي: نظرًا إلى أنه لا يمكننا فعليًا أن نجبر الأفراد على أن يتفقوا على حقائق أخلاقية أو ميتافيزيقية، ينبغي علينا أن نتسامح مع التنوع على المستوى السياسي.

بيد أن رولس يرى أن هناك ترتيب سياسي أفضل، وحتى إذا تم التوصل إلى الحقيقة حول أفضل ترتيب سياسي عن طريق الاهتمامات الواقعية بما ينفع سياسيًا في ضوء حقيقة التنوع. بالتالي فإن فكرته حول الاجماع السياسي تحاول تجنب الانزلاق نحو الشك والنسبية. إلى جانب ذلك يبدو أنه بالنسبة إلى التسامح السياسي، هناك قيمة واحدة غير نسبية على الأقل، أي قيمة التسامح والتعايش السلمي، حتى ولو كانت مبررة بشكل عملي فقط بالحاجة التاريخية الملموسة للتعايش السلمي بين أولئك الذين لا يستطيعون التوصل إلى إجماع حول آرائهم في الخير.

بدت مقاربة الليبرالية السياسية هذه تحقق نجاحًا في الممارسة. إذ يمكن للمرء أن يقدم الحجة القائلة بأن فكرة الدولة المحايدة والاجماع السياسي حول الحاجة للتسامح تتطور تدريجيًا في القانون الدستوري في الولايات المتحدة وفي القانون الدولي من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة. فالمادة 26 من إعلان الأمم المتحدة تنص صراحة على أن التعليم حق للجميع وأنه يجب أن تهدف التربية إلى “تنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية”. ونحن لا نزال بعيدين عن تجسيد فكرة مجتمع دولي متسامح. مع ذلك، من الواضح تمامًا أن فكرة التسامح السياسي نجحت في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى في العقود القليلة الماضية.

على الرغم من هذا النجاح، إلا أن النقاد مثل مايكل ساندل في كتابه الاستياء من الديمقراطية (1998)، اعتبروا أن الموقف المتسامح لما يسميه “الجمهورية الإجرائية” يجب أن يستند إلى نظرية أخلاقية أكثر شمولًا. فمن دون مثل هذه الركيزة، يخاف ساندل من أن تفقد الدولة المحايدة المتسامحة في نهاية المطاف ارتباطها بالحياة الأخلاقية للأفراد. يعتبر ساندل في الحجج التي يقدمها ضد رولس وضد تطورات معينة في القانون الدستوري أن مقاربة الليبرالية السياسية لا يمكنها أن تأخذ بعين الاعتبار في نهاية المطاف عمق التزام معظم الأفراد بالعقائد الشاملة الخاصة بهم. ويقر رولس بأنه، ومن أجل نجاح فكرته حول الاجماع المتداخل في الآراء، يجب أن يفترض ضعفًا في الإيمان الخاص في العقائد الشاملة. أما المشكلة هنا فهي بأن هذه الفكرة تدافع عن التسامح من خلال التقليل من قوة أشكال الإيمان الخاصة التي يجب التسامح معها.

يُذكر أن مشكلة أخرى تبرز هنا حول المقاربة السياسية للتسامح وهي أنها تكافح من أجل تحديد طبيعة الخصوصية. وفق التسامح الأخلاقي هناك نشاطات خاصة معينة هي فقط من اهتمام الفرد ومن غير المبرر أن تتدخل الدولة في هذه النشاطات الخاصة. بيد أن مقاربة سياسية محض للتسامح غير قادرة على رسم الخط الفاصل بين ما هو عام وما هو خاص بطريقة ميتافيزيقية. بدلًا من ذلك، يتم تحديد مجال الخصوصية بحد ذاته فقط كنتيجة لعملية بناء إجماع سياسي. بالتالي فإن مصدر القلق هو أن مبادئ الليبرالية السياسية ليست محددة بشكل واضح وأنه يمكن انتهاك التسامح، بصفته مجرد أسلوب حياة، إذا تغيّر الاجماع السياسي. بعبارة أخرى، في حال عدم وجود أي أساس ميتافيزيقي لمجال الخصوصية، فمن غير الواضح تمامًا ما يفترض بفكرة التسامح الليبرالي التي تقوم على السياسة أن تسامح.

7 المراجع والمزيد من القراءات

رونالد بينر. ما خطب الليبرالية (بيركلي: دار نشر جامعة كاليفورنيا، 1992)

أشعيا بريلن. “مفهومان للحرية” في أربعة مقالات عن الحرية (أوكسفرد: دار نشر جامعة أوكسفورد، 1969)

جون و. كوك. الأخلاقية والاختلافات الثقافية (أوكسفرد: دار نشر جامعة أوكسفورد، 1999)

رونالد دوركين. الفضيلة السيادية (كامبريدج، ماساتشوستس: دار نشر جامعة هارفرد، 2000)

رونالد دوركين. أخذ الحقوق على محمل الجد (كامبريدج: هارفرد، 1977)

أندرو فيالا. “التسامح والعملية” في مجلة الفلسفة التأملية، 16:2، (2002)، 103-116

يورغن هابرماس. الوعي الأخلاقي وأفعال التواصل (كامبريدج، ماساتشوستس: دار نشر معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، 1990)

دايفد هايد، تحرير.التسامح: فضيلة متملصة (برنستون: دار نشر جامعة برنستون، 1996)

جون هورتن وبيتر نيكلسون، تحرير. التسامح: الفلسفة والعملية (لندن: دار نشر أشغايت، 1992)

بريستون كينغ. التسامح (لندن: فرانك كاس، 1998)

ويل كيمليكا. الليبرالية والمجتمع والثقافة (أوكسفرد: دار نشر كلاريندون، 1989)

جون كريستيان لورسن. “ما قاله سبينوزا حول التسامح” في الاختلاف والمعارضة: نظريات حول التسامح في أوروبا العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، تحرير نيدرمان ولورسن (لانام، ماريلاند: رومان وليتلفيلد، 1996)

جون لوك. رسالة حول التسامح في الأعمال الكلاسيكية حول النظرية السياسية الحديثة بتحرير ستيفن م. كان (نيويورك: دار نشر جامعة أوكسفرد، 1997)

جيرالد م. مارا. “سقراط والتسامح الليبرالي” في النظرية السياسية، 16:3 (1988).

هيربرت ملركوس. “التسامح القمعي” في نقد للتسامح المحض بتحرير ولف ومور وماركوس (بوسطن: دار نشر بيكون، 1969)

جاك ماريتان. الإنسان والدولة (شيكاغو: دار نشر جامعة شيكاغو، 1951)

سوزان ميندوس ودايفد أدوردز، تحرير. في التسامح (أوكسفرد: دار نشر كلاريندون، 1987)

سوزان ميندوس. “لوك: التسامح والأخلاقية والعقلانية” في دراسة لجون لوك: رسالة حول التسامح، بتحرير جون هورتن وسوزان ميندوس (لندن: روتلدج، 1991)

سوزان ميندوس. التسامح وحدود الليبرالية (أتلانتيك هايلاندز، نيوجيرسي: دار نشر العلوم الإنسانية الدولي، 1989)

جون ستوارت ميل. في الحرية وغيرها من المقالات (أوكسفرد: الأعمال الكلاسيكية العالمية، 1998)

جون ميلتون. أيروباجيتيكا في الأعمال الكتابية العظيمة في الغرب من موسوعة بريتانيكا، المجلد 29 (شيكاغو: دار نشر جامعة شيكاغو، 1991)

غلين نيوي. الفضيلة والعقلانية والتسامح (إدينبرة: دار نشر جامعة إدينبرة، 1999)

هانس أوبرديك. التسامح: بين الإحجام والقبول (لانام، ماريلاند: رومان وليتلفيلد، 2001)

توماس بين. الأعمال الكاملة لتوماس بين، تحرير فيليب فونر (نيويورك: دار نشر ذي سيتاديل، 1945)

كارل بوبر. المجتمع المنفتح وأعداؤه (برنستون: دار نشر جامعة برنستون، 1971)

جون رولس. نظرية العدالة (كامبريدج، ماساتشوستس: دار نشر جامعة هارفرد، 1971)

جون رولس. العدالة كإنصاف: إعادة عرض (كامبريدج، ماساتشوستس: دار نشر جامعة هارفرد، 2001)

جون رولس. الليبرالية السياسية (نيويورك: دار نشر جامعة كولومبيا، 1995)

جون رولس. قوانين الناس (كامبريدج، ماساتشوستس: دار نشر جامعة هارفرد، 2001)

مهدي أمين رزافي ودايفد أمبويل، تحرير. الفلسفة والدين ومسألة عدم التسامح (ألباني: دار نشر جامعة ولاية نيويورك، 1997)

بول ريكور، تحرير. التسامح بين ما يمكن التسامح عنه ما لا يمكن التسامح عنه (نسخة عن ديوجين، رقم 176، عدد 44/4، شتاء 1996)

ريتشارد رورتي. الإمكانية والسخرية والتضامن (كامبريدج: دار نشر جامعة كامبريدج، 1989)

مايكل أ. روزينثال. “التسامح كفضيلة في أخلاقيات سبينوزا” في مجلة تاريخ الفلسفة 39:4 (2001)، 535-557.

مايكل ساندل. الاستياء من الديمقراطية (كامبريدج: هارفرد، 1998)

مايكل ساندل. الليبرالية وحدود العدالة (كامبريدج: دار نشر جامعة كامبريدج، 1982)

أمارتيا سين. “حقوق الإنسان والقيم الآسيوية” في ذي نيو ريبابليك 217:2-3 (1997)

باروك سبينوزا. بحث لاهوتي سياسي وبحث سياسي (نيويورك: دار نشر دوفر، 1951)

كور-شور تان. التسامح والتنوع والعدالة العالمية (يونيفرسيتي بارك، بينسيلفانيا: دار نشر جامعة ولاية بينسيلفانيا، 2000)

فولتير. القاموس الفلسفي (كليفلاند: شركة النشر العالمية،1943)

جيريمي والدرن. “لوك: التسامح وعقلانية الاضطهاد” في دراسة لجون لوك: رسالة حول التسامح، بتحرير جون هورتن وسوزان ميندوس (لندن: روتلدج، 1991)

مايكل والزر. في التسامح (نيو هايفن: دار نشر جامعة يال، 1997)