كورش الأكبر والتسامح الدينى

Cyrus 2-3

الرؤية والدافع

“ناضِل فى سبيل الحرية متى استطعت. فالحرية والكرامة والثراء ثلاثة عناصر إذا ما اجتمعت حظيت البشرية بالسعادة القصوى. وإذا منحتها لشعبك، فستكسب حبه إلى الأبد”.[1]

تلك هى الفلسفة التى تبناها كورش الكبير، فقد أسس كورش ملك أنشان الإمبراطورية الأخمينية عام 550 ق. م. بعد استيلائه على مملكة ميديا. وفى عهده، الذى دام ما بين عامى  550 إلى  530 ق. م.، امتدت الأراضي الأخمينية من البلقان إلى آسيا الوسطى.[2] و تعتبر الإمبراطورية الأخمينية أكبر إمبراطورية فى التاريخ إذ بلغ تعداد سكانها نحو 59 مليون شخص من  من إجمالى 112 مليون هم إجمالى سكان العالم وقتها، أى مايوازى 44% من إجمالى سكان العالم.[3] ففى ذلك الوقت كانت تعد أيضًا الإمبراطورية الأكثر تنوعًا وتعددية في العالم ، إذ جمعت أممًا وقبائل ولغات وثقافات وديانات مختلفة تحت رايتها. وكان التسامح أحد أبرز خصائصها.[4]

ومن أبرز الأحداث التى ميزت حكم كورش هى غزوه بابل بعد تغلبه على ملكها نبونيد. وترجع أهمية ذلك لسببين. أولاً، سيطرت كورش على بابل مكنته من التحكم فى طرق تجارية استراتيجية فى المنطقة.[5] ثانيًا وربما الأهم هو أن احتلال بابل كان سببا لاصدار كورش أول ميثاق لحقوق الإنسان وهو ما سطره على ما يعرف بأسطوانة كورش، والذى تضمن أفكاره حول حقوق الأمم والشعوب الخاضعة لحكمه، مما أكسبه شهرة على مر التاريخ. وتصف وثيقة أسطوانة كورش كيف احتل كورش وجيشه بابل وهزم نبونيد. ونصت الوثيقه على حرية الاعتقاد واعتناق الاديان والعبادة للجماعات والآثنيات المتنوعة للشعوب التى عاشت فى ظل الإمبراطورية الأخمينية. وأكدت حق عودة من نُقلوا إلى بابل كأسرى حرب إلى ديارهم. وكان اليهود من بين تلك الجماعات التى أُذن لها بالعودة، حتى إن الإمبراطور قدم لهم الدعم المالى والسياسى حتى يعودوا إلى أرضهم ويعيدوا بناء الهيكل فى مدينة أورشليم.[6] انطلاقًا من هذه الأسباب، تُعد أسطوانة كورش وثيقة قانونية تاريخية ذات أهمية كبرى، إذ تدعم حرية المعتقد والتسامح الدينى.[7]

يقول ريتشارد فراى أحد الباحثين والخبراء المعروفين المتخصصين فى شئون إيران وآسيا الوسطى: “خلد التاريخ كورش ليس فقط كمؤسس لإمبراطورية عظيمه، بل كقائد جسد المزايا العظيمة المنشودة لدى أى قائد فى العصور الغابرة، بالإضافة إلى صفات بطولية كغازٍ عُرف بتسامحه ونبله من ناحية وبشجاعته وجرأته من ناحية أخرى. طبعت شخصية كورش أثرًها على اليونانيين ،  وهو نفس الأثر الذى تركه الإسكندر الأكبر، وتناقله الرومان ونشروا ما أسسه من تقاليد للتسامح ليظل باقيا ومؤثرا حتى يومنا هذا”.[8]

 

الأهداف والغايات

تميز كورش إلى حد كبير عن باقى ملوك عصره بطريقة حكم مختلفة. فقد أنشأ كيانًا سياسيًا جديدًا وهو الإمبراطورية وكان لا بد له من تعزيز المبادئ الاجتماعية التي من شأنها ترسيخ النظام الجديد ودعم استقراره. تبنى التسامح واحترام معتقدات الآخرين وتقاليدهم وأعرافهم كركائز لسياساته، مما أكسبه احترام وتقدير كافة الشعوب الخاضعة لحكمه وفى الوقت نفسه ضمن استقرار إمبراطوريته العالمية. وبعد غزوه بابل، قدم كورش نفسه على أنه محرر الشعوب وأنه أفضل خلف للملك المهزوم وليس غاز. لم يرغم الشعوب التى أخاضعها لحكمه على تغيير دياناتها أو معتقداتها، ، وخير دليل على ذلك أنه اتخذ تدابير لدعم السكان المحليين، مثل السماح لليهود بالعودة إلى موطنهم الأصلى “يهوذا” ومساعدتهم على إعادة بناء الهيكل فى أورشليم. فقد سعى إلى إرساء الاستقرار السياسى والنظام والسلام فى إمبراطوريته المتنامية الأطراف والتى تتسم بتنوع سكانى وإثنى وعقائدى واسع.[9]  وتعد وثيقة أسطوانة كورش  هى البرهان الحى على أن كورش من بناة الأمن والاستقرار ورسول السلام في العالم”[10]  والتى سطر عليها التالى:

“كانت قواتى تجوب بسلام بابل، ولم يكن لسومر وأكاّد ما تخشاه. حرصت على توفير الأمان في المدينة وحماية مقدساتها. أما سكان بابل، الذين عاشوا قهرًا لم يكن يجب أن يعيشوه، فقد هدأت من روعهم وحررتهم وحطمت قيودهم”.[11]

تشير مصادر عبرية وبابلية تاريخية إلى كورش على أنه مصلح ومحرر الأراضى التى كانت خاضعة لحكام ينقصهم الكفاءة  لم يحظوا برضى الشعب والآلهة. والأهم أن كورش نهج  أسلوبا و سلوكًا مختلفين تجاه التسامح الدينى فى المنطقة.[12] وحرص الأباطرة الأخمينيون الذين خلفوه مثل قمبيز وداريوس على اتباع نهجه وسياساته وسمحوا للساطرافيات (أى مقاطعات الإمبراطورية الأخمينية) بالمحافظة على قوانينها وقيمها الدينية والثقافية. وأدى التسامح الدينى إلى تعزيز استقرار الإمبراطورية الأخمينية السياسى ونجاحها.

يعتقد كثير من الباحثين أن سياسات كورش مستقاه من التعاليم الزرادشتية” المجوسية”.[13] ولكن هنا يجب الإشارة إلى الاعتبارات السياسية لعبت دورًا مهمًا في رسم كورش لسياساته. فإدارة أراضى الإمبراطورية الأخمينية الواسعة بشكل يضمن استقرار حكمه ويحول دون نشوب ثورات حتمت على كورش اتباع استراتيجية قائمة على إيديولوجية مكّنته من التعاون مع النخب المحلية. وتُعد رغبة كورش فى تحقيق ذلك أحد الأسباب الرئيسية لاعتماده سياسة سمحت بالمحافظة على الأعراف المحلية وعدم المساس بها بأى شكل من الأشكال، كما جعلته يبدوا الحارس الأمين لكل المعابد والمقدسات.[14] ونجح كورش في استقطاب رجال الدين والنخب المحلية وإدماجهم فى النخبة الحاكمة الجديدة.[15] وأمّن كورش أيضًا استقلالية سياسية محلية محدودة بحيث عاد ذلك عليه بالنفع. فعلى سبيل المثال، يعتقد المؤرخون أن إحدى غايات كورش من السماح لليهود بالعودة إلى يهوذا هى استعمالهم كحاجز بين أراضيه وأراضى المصريين.[16]

القيادة

عندما خلف كورش الأكبر والده قمبيز الأول، كان ذلك بصفته حاكم مقاطعة أنشان الفارسية، وهى منطقة مهمة من المناطق التى تعرف باسم العيلامية فى بلاد فارس القديمة، تقع حاليا في مقاطعة فارس الغربية. وهو بالأساس، لم يكن حاكمًا مستقلاً بالكامل ولكنه أعلن ولاءه لملك ميديا. وفى عام 553 ق. م.، ثار كورش على أستياجس ملك ميديا الأخير، بمساعدة بعض وجهاء ميديا.[17] وانتهت الحرب بين الفرس والميديين عام 550 ق. م. بهزيمة كورش لخصمه ليصبح ملك فارس.[18] وبعد غزو كل من ليديا، وهي مملكة قديمة غرب الأناضول، تركيا اليوم، وبابل، باتت الإمبراطورية الأخمينية إمبراطورية مترامية الأطراف تضم جزءًا كبيرًا من آسيا.

في أسطوانة كورش، عرف كورش نفسه كالتالى: “أنا كورش،‏ ملك العالم،‏ الملك العظيم،‏ الملك القدير،‏ ملك بابل،‏ وسومر وأكّاد،‏ ملك الأطراف الأربعة (‏للأرض)‏،‏ ابن قمبيز (‏قمبوجيا‏)‏،‏ الملك العظيم،‏ ملك أنْشان،‏ حفيد كورش [الأول]،‏ .‏ .‏ .‏ سليل تيسبيس، الملك العظيم،‏ ملك أنْشان .‏ .‏ .‏ سليل أسرة (‏تربعت على)‏ العرش دومًا، والذى يحبه بيل (مردوخ) ونبو، ذاك العرش الذى يهتمان لأمره ويفرحان له”.[19]

وتجدر الإشارة إلى أن كورش هو من القلائل من غير اليهود المُبَجلين فى العهد القديم حيث يشير إليه على أنه “راعي” الرب و”الممسوح” فى النص التالى: “الْقَائِلُ عَنْ كُورَشَ: رَاعِى، فَكُلَّ مَسَرَّتِى يُتَمِّمُ. وَيَقُولُ عَنْ أُورُشَلِيمَ: سَتُبْنَى، وَلِلْهَيْكَلِ: سَتُؤَسَّسُ”. هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ لِكُورَشَ الَّذِى أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا، وَأَحْقَاءَ مُلُوكٍ أَحُلُّ، لأَفْتَحَ أَمَامَهُ الْمِصْرَاعَيْنِ، وَالأَبْوَابُ لاَ تُغْلَقُ”.[20]

يعتقد بعض علماء الإسلام مثل عبد الكلام آزاد وعلامة طباطبائى ومرتضى مطهّرى أن “ذو القرنين” الذى تم الإشارة  إليه فى سورة الكهف في القرآن الكريم هو كورش الكبير.[21] إلا أن هذا الطرح مثير للجدل. يصف القرآن ذو القرنين على أنه حاكم عادل مختار من قبل الله:” إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَىءٍ سَبَبًا. فَأَتْبَعَ سَبَبًا”.[22]

يرد ذكر كورش أيضًا فى عدة نصوص تاريخية. فقد كتب المؤرخ الإغريقى العظيم هيرودوتس عن كورش قائلا: إن الإيرانيين كانوا يعتبرون كورش بمثابة “الأب” لأنه كان حاكمًا رحيما قدم كل الخير لأتباعه.[23] والمؤرخ والجندى الإغريقى زينوفون ،  تناول فى كتابه “سايروبايديا” فى مطلع القرن الرابع ق. م.، سيرة كورش ومعتقداته بصفته حاكمًا مثاليًا ومتسامحًا. حيث أشاد بكورش قائلا: “لا يوجد رجل آخر فى العالم غير كورش، استطاع أن يطيح بإمبراطورية، وعلى الرغم من ذلك يتوفى ملقبًا بالأب من قبل الشعوب التى أخضعها لسلطته. فمن الواضح أن مثل هذا اللقب يُمنح لشخص يعطى ولا يأخذ”.[24] واعتبرت الشعوب التي اعتادت اساليب الحكم الهمجية التي اشتُهرت بها الإمبراطوريتان الآشورية الحديثة والبابلية الحديثة سياسة كورش المتمثلة فى “التسامح المتناهى القائم على احترام الأفراد والمجموعات العرقية والديانات والممالك القديمة الأخرى” سياسة تتسم بالثوروية .[25]

البيئة المدنية

تصف النصوص التاريخية الملك نبونيد، وهو أخر ملوك الإمبراطورية البابلية، بأنه طاغية أهمل الآلهة والشعائر الدينية.[26] وبحسب أسطوانة كورش، أغضبت التدابير التى اتخذها نبونيد آلهة بابل: “أوقف التضحيات اليومية وتدخل بالشعائر  وتلاعب […] بالمقدسات. وفى عهده، لم يعد مردوخ، ملك الآلهة، يُبجَّل. وكان يلحق المزيد من الضرر بمدينته يومًا بعد يوم؛… قاد شعبه […]، إلى الخراب وأخضعهم لقهرٍ لا يحتمل. اعترى إنليل إله الرخاء والنماء غضبا شديدا إزاء شكواهم و […] والخراب الذى طال أرضهم”.[27] اعتبر كورش نفسه مختارًا من قبل مردوخ، إله بابل، لإنقاذ المدينة: “بحثًا عن الملك الأمين الذى اختاره، أخذ  إله بابل يد كورش، ملك مدينة أنشان ودعاه باسمه ومنحه الملك”.[28]

في العام 597 ق. م.، اجتاح ملك بابل نبوخذنصر  الثانى يهوذا واحتل أورشليم وأرسل ملك يهوذا مع عائلته وقادته ونوابه كأسرى إلى بابل. وبعد أن ثار ملك يهوذا المعين على بابل، هاجم ملك بابل أورشليم مجددًا عام 586 ق .م.[29] ويروى قصة العهد القديم قصة الهجوم: “وَأَحْرَقَ بَيْتَ الرَّبِّ، وَبَيْتَ الْمَلِكِ، وَكُلَّ بُيُوتِ أُورُشَلِيمَ، وَكُلَّ بُيُوتِ الْعُظَمَاءِ، أَحْرَقَهَا بِالنَّارِ. وَكُلَّ أَسْوَارِ أُورُشَلِيمَ مُسْتَدِيرًا هَدَمَهَا كُلُّ جَيْشِ الْكَلْدَانِيِّينَ الَّذِى مَعَ رَئِيسِ الشُّرَطِ. وَسَبَى نَبُوزَرَادَانُ، رَئِيسُ الشُّرَطِ، بَعْضًا مِنْ فُقَرَاءِ الشَّعْبِ، وَبَقِيَّةَ الشَّعْبِ الَّذِينَ بَقُوا فِى الْمَدِينَةِ، وَالْهَارِبِينَ الَّذِينَ سَقَطُوا إِلَى مَلِكِ بَابِلَ، وَبَقِيَّةَ الْجُمْهُورِ. وَلكِنَّ نَبُوزَرَادَانَ، رَئِيسَ الشُّرَطِ، أَبْقَى مِنْ مَسَاكِينِ الأَرْضِ كَرَّامِينَ وَفَلاَّحِينَ.”[30] وأدت هذه الأحداث إلى ما يسمى بـ”الأسر البابلى”.

عانى اليهود الأمرّين خلال أسرهم فى بابل، حيث اضطُهدوا من قبل السلطة وعامة الشعب، خصوصًا عند وصولهم إلى بابل.[31] بالرغم من ذلك، حافظوا على هويتهم الدينية وروحهم  كشعب واحد وحلموا بالعودة إلى وطنهم يومًا ما.[32]

عام 539 ق. م.، هاجم كورش بابل وهزم نبونيد وبسط سلطته على المدينة. ورحب به اليهود كمحرر.[33] وأعلن فك أسر اليهود رسميًا وسمح لهم بالعودة إلى وطنهم مملكة يهوذا.[34] ووفقًا لعزرا، نحو 50 ألف يهوديا عادوا إلى يهوذا.[35] كما سمح لهم كورش بإعادة بناء الهيكل فى أورشليم ومدهم بالأموال للازمه لذلك .[36]  وأمر بإعادة الممتلكات التى صادرها نبونيد إلى اليهود.[37]

ويرد أمر كورش في عزرا: “هكَذَا قَالَ كُورَشُ مَلِكُ فَارِسَ: جَمِيعُ مَمَالِكِ الأَرْضِ دَفَعَهَا لِى الرَّبُّ إِلهُ السَّمَاءِ، وَهُوَ أَوْصَانِى أَنْ أَبْنى لَهُ بَيْتًا فِى أُورُشَلِيمَ الَّتِى فِى يَهُوذَا. مَنْ مِنْكُمْ مِنْ كُلِّ شَعْبِهِ، لِيَكُنْ إِلهُهُ مَعَهُ، وَيَصْعَدْ إِلَى أُورُشَلِيمَ الَّتِى فِى يَهُوذَا فَيَبْنِى بَيْتَ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ. هُوَ الإِلهُ الَّذِى فِى أُورُشَلِيمَ. وَكُلُّ مَنْ بَقِى فِى أَحَدِ الأَمَاكِنِ حَيْثُ هُوَ مُتَغَرِّبٌ فَلْيُنْجِدْهُ أَهْلُ مَكَانِهِ بِفِضَّةٍ وَبِذَهَبٍ وَبِأَمْتِعَةٍ وَبِبَهَائِمَ مَعَ التَّبَرُّعِ لِبَيْتِ الرَّبِّ الَّذِى فِى أُورُشَلِيمَ”.[38]

لم يقرر اليهود في بابل برمتهم العودة إلى يهوذا، إذ بقى كثيرون منهم فى بابل نظرًا لروابطهم الشخصية وأعمالهم. وفى عهد كورش، كانوا يتمتعون بحرية المعتقد والعبادة حتى من بقى منهم فى بابل.[39] ولم تقتصر سياسة التسامح الدينى التى انتهجها كورش على الشعب اليهودى فى مملكته. ولكن حظيت معاملته لليهود باهتمام أكبر من معاملته لشعوب أخرى نظرًا لتغطيتها الواسعه فى النصوص التاريخية والدينية، إلا أن أسطوانة كورش لا تذكر أية ديانة بالاسم بل تعلن الحرية الدينية للشعوب كافة.

وبعيدا عن سياساته الدينية، أنشأ كورش إدارة لامركزية لإمبراطوريته. ومنح استقلالية محدودة وحرية للوحدات الفرعية الإدارية المعروفة باسم الساطرافيات (ساطرافية)، التى كانت بدورها مقسمة إلى وحدات فرعية أصغر على رأس كل واحدة منها حاكم. وتمتعت الوحدات الفرعية أيضًا باستقلالية فى مجالات متعددة بما فيها الشئون الدينية.[40]

الرسالة والجمهور

لم يؤسس كورش الأكبر نظامًا سياسيًا غير مسبوق فحسب، بل قدم للشعوب التى حكمها علاقة غير مسبوقة أيضا مع حاكمهم  تقوم على عمل الخير. فطريقة تعامله مع الشعب البابلى والشعب اليهودى أبقت ذكراه كحاكم خيِّر حية لدى الشعوب.[41] وسمحت سياسة كورش للتسامح الدينى المسجلة فى أسطوانته التى تحمل اسمه، للمهجرين بالعودة إلى أوطانهم وترميم مقدساتهم. ومع أن أسطوانة كورش لا تذكر اليهود بالاسم، إلا أن الروايات الإنجيلية تؤكد أن اليهود كانوا من بين الشعوب التى قام كورش بتحريرها. فقد حكم كورش أراضٍ واسعة متعددة الأعراق وكانت أصول الحكم السليم تستوجب أن يسمح لمختلف الأمم بعبادة آلهتها وممارسة شعائرها واحتفالاتها الدينية. وقد ساهمت سياسته القائمة على التسامح الدينى إلى حد كبير فى نجاحه فى إنشاء الإمبراطورية الأخمينية.[42]

وتوثق أسطوانة كورش قراره بالسماح للشعوب المهجّرة على غرار اليهود بالعودة إلى وطنها: “أكاد، أرض إشنونة، مدينة زمبان، مدينة ميتورنو، دير، وصولاً إلى حدود أرض غوتى، وأعاد المزارات الواقعه عبر نهر دجلة، التي أُهدرت مقاماتها، والآلهة التى كانت توجد هناك. جمعتُ شعوبها كافة وأعدتهم إلى أوطانهم، وبأمر من الآله العظيم مردوخ، تم اعادة جميع آلهة أرض سومر وأكاد التى نقلها نبونيد إلى شوانا، مما أثار غضب إله الآلهة، اعدتها جميعا سالمه إلى مواطنهم، وإلى المقدسات التي تجعلهم سعداء”.[43]

وبشكل عام يمكن أن نقول أن ميثاق أسطوانة كورش تتضمن ثلاث رسائل منفصلة ومهمة، أولها أنها تؤسس للمساواة  بين جميع الأعراق ومختلف الألسنة والأديان. ثانيا تسمح لأسرى بابل بالعودة إلى وطنهم وبإعادة الآلهة إلى مقدساتها وإعادة بناء المعابد التى تم تدميرها.[44] وأخيرا عودة اليهود إلى يهوذا وإعادة بناء هيكلهم،  حيث أوصت وثيقة كورش بإعادة بناء المعابد البابلية وإعادة الآلهة المحلية إلى مقدساتها وإزالة الآلهة المفروضة على السكان المحليين من المزارات المحلية.

 

أنشطة التوعية

وتأتى وثيقة أسطوانة كورش فى إطار تقليد كان قائمًا في بلاد ما بين النهرين قبل غزو كورش لبابل. وبموجب هذا التقليد، كان الملوك يستهلون حكمهم بإعلانات عن الإصلاح.[45] ومن الأمثلة على هذا التقليد إعلان أوروكاجينا، حاكم لكش عام 2350 ق. م.، وقرارت أورنامو وحمورابى. وتم العثور على أسطوانة كورش فى حفريات أثرية فى بابل، العراق، عام 1879، وحُفظت فى المتحف البريطانى منذاك.[46] وهى تُعتبر الوثيقة الأولى لحقوق الإنسان.[47] وقد تُرجمت إلى اللغات الرسمية الست في الأمم المتحدة،[48] وقدم النظام البهلوى نسخة منها إلى الأمم المتحدة كهدية. وتعرض حاليا في مقر الأمم المتحدة في مدينة نيويورك.[49]

تركت سياسات كورش القائمة على التسامح والعدالة والحرية الدينية أثرًا لدى الكثير من القادة  سواء خلال حياته أوبعد مماته. والهمت سيرته كما جاء فى “سايروبايديا” قادة بارزين على غرار الإسكندر الأكبر.  وفى العصر الحديث أثر على شخصيات مثل توماس جيفرسون وبنجامين فرانكلين.[50] اتبع قمبيز الثانى، ابن كورش الأكبر، خطى والده بعد تبوّئه السلطة واحترم آلهة الشعوب، خصوصًا بعد أن غزا مصر. وكذلك، استخدم داريوش الكبير الدين لتعزيز ملكه. احترم آلهة مقاطعات الإمبراطورية الأخمينية (الساطرافيات) بالرغم من أنه أعلن ولاءه للإله أهورامزدا. وتُظهر ألواح تحمل كتابة باللغة العيلامية، عُثر عليها في بيرسيبوليس، أن داريوش سمح لأتباع مختلف الديانات فى أراضيه بعبادة آلهتهم الموروثة، حتى أنه قدم لهم منحًا من خزينته.[51] وفى السنة السادسة من حكمه وبدعم مالى منه انتهت أيضا عملية إعادة بناء الهيكل في أورشليم.[52]

ففى العصر الحديث مثل كورش أيضا  قدوة وألهم الكثيرين. فتوماس جيفرسون، ثالث رئيس للولايات المتحدة وواضع إعلان الاستقلال الأمريكى، وغيره ممن ساهموا فى تأسيس الولايات المتحدة، تبنوا أفكار كورش الكبير التقدمية قبل سنوات من اكتشاف  أسطوانة كورش. وكان جيفرسون يحتفظ بنسختين من كتاب “سايروبايديا” وقد أثر فيه إلى حد كبير لدرجة أنه نصح حفيده بقراءته.[53] يبين ذلك مدى أهمية  سياسات كورش بالنسبة إلى واضعى الدستور الأمريكى. ويقول جون كورتيس، أمين المتحف البريطاني “إن وثيقة أسطوانة كورش وما ترمى إليه من أهداف أسست بداية جديدة للشرق الأدنى القديم… كما أن مفهوم حرية المعتقد جذب مؤسسى الولايات المتحدة، التى كانت محتله جزئيًا بواسطة الأوروبيين الهاربين من الاضطهاد الدينى”.[54]

وحتى اليوم يُعتبر كورش الأكبر أحد أكثر القادة تأثيرًا على مدى التاريخ. ففى عام 1992، احتل المرتبة 87 في كتاب “الخالدون مائة: ترتيب أكثر الشخصيات تأثيرًا فى التاريخ” من تأليف مايكل ه. هارت، وهو عالم بالفيزياء الفلكية وكاتب أمريكي يهودى.[55]

ومن جهتها، صرحت شيرن عبادى عند استلامها جائزة نوبل للسلام فى العاشر من ديسمبر عام 2003 قائلة:

 “أنا إيرانية. أنا سليلة كورش الأكبر، الإمبراطور الذى أعلن في أوج سلطته منذ 2500 سنة أنه…”لن يتولى الحكم إذا كان ذلك مخالفًا لإرادة الشعب”. وتعهد بألا يرغم أى شخص على تغيير ديانته وصان حرية الجميع.  وثيقة كورش الأكبر إحدى أهم الوثائق فى تاريخ حقوق الإنسان”.[56]

 

 

 


[1] زينوفون ولارى هدريك، عن كتاب كورش الأكبر لزينوفون: فن القيادة وفن الحرب. نيويورك: ترومان تالى/ ساينت مارتنز، 2006. 199. نسخة مطبوعة.

[2] فيرجسون، باربرا ج. ب. “أسطوانة كورش- غالبًا ما يشار إليها على أنها “التشريع الأول لحقوق الإنسان”.” تقرير واشنطن حول شئون الشرق الأوسط. مايو 2013. http://www.wrmea.org/2013-may/the-cyrus-cylinder%E2%80%94often-referred-to-as-the-first-bill-of-human-rights.html

[3] أكبر إمبراطورية بحسب النسبة المئوية لسكان العالم “موسوعة جينيس للأرقام القياسية “. http://www.guinnessworldrecords.com/world-records/largest-empire-by-percentage-of-world-population

[4] فيرجسون، باربرا ج. ب. “أسطوانة كورش- غالبًا ما يشار إليها على أنها “التشريع الأول لحقوق الإنسان”.” تقرير واشنطن حول شئون الشرق الأوسط. مايو 2013. http://www.wrmea.org/2013-may/the-cyrus-cylinder%E2%80%94often-referred-to-as-the-first-bill-of-human-rights.html

[5] فوربس، ستيف بريفاس، وجون بريفاس. عظمة قوة الطموح : أوجه التشابه المذهلة بين القادة العظماء في العالم القديم وعالم اليوم—والعبر التى يمكن استخلاصها. نيويورك: كراون بيزنس، 2009. 34. نسخة مطبوعة.

[6] «اسرائیل: آشنایی با «حضرت کوروش منجی یهودیان»»، ایران­وایر، 29 سبتمبر 2013. http://iranwire.com/blogs/6264/2867/

[7] “أسطوانة كورش: تغليب القانون على السلاح”. هاريس أند جرينويل.

 http://www.harris-greenwell.com/uploads/HGS/Cyruscylinder.pdf

[8] فراى، ريتشارد ن. “كورش الثانى | السيرة الذاتية- ملك فارس”. إنسايكلوبيديا بريتانيكا. http://www.britannica.com/EBchecked/topic/148758/Cyrus-II

[9] “تاريخ إيران: كورش الكبير”. إيران شامبر سوسايتى. http://www.iranchamber.com/history/cyrus/cyrus.php

[10] دریایی، تورج، «کوروش بزرگ پادشاه باستانی ایران»، ترجمه آذردخت جلیلیان، وبسایت تورج دریایی، ص 22 و24. http://www.tourajdaryaee.com/wp-content/uploads/Daryaee-Cyrus-Persian.pdf

[11] “ترجمة نص أسطوانة كورش”. تولى الترجمة إيرفينج فينكل. المتحف البريطانى. الفقرات 24-26. http://www.britishmuseum.org/explore/highlights/articles/c/cyrus_cylinder_-_translation.aspx

[12] دریایی، تورج، «کوروش بزرگ پادشاه باستانی ایران»، ترجمه آذردخت جلیلیان، وبسایت تورج دریایی، صص 21 و22. http://www.tourajdaryaee.com/wp-content/uploads/Daryaee-Cyrus-Persian.pdf

[13] حسانى، بيهزاد. “حقوق الإنسان وتعاظم الإمبراطورية الأخمينية: عِبر منسية من حقبة منسية”. دائرة الدراسات الإيرانية القديمة. يونيو 2007. http://www.cais-soas.com/CAIS/History/hakhamaneshian/human_rights.htm

[14] براينت، بيير. من كورش إلى الإسكندر: تاريخ الإمبراطورية الفارسية. وينونا ليك، إنديانا: آيزنبرونز، 2002. 79. نسخة مطبوعة.

[15] دریایی، تورج، «کوروش بزرگ پادشاه باستانی ایران»، ترجمه آذردخت جلیلیان، وبسایت تورج دریایی، ص24. http://www.tourajdaryaee.com/wp-content/uploads/Daryaee-Cyrus-Persian.pdf

[16] أبوت، جايكوب. كورش الكبير. نيويورك: هاربر أند براذرز، 1990. 222. نسخة مطبوعة.

[17] ر.ک. هرودوت، تاریخ هردوت، ترجمه غ. وحید مازندرانی، تهران: مرکز انتشارات علمی و فرهنگی، 1362، ص 103-97.

[18] داندامايف، م. أ. تاريخ الإمبراطورية الأخمينية السياسى. ليدن: إى. ج. بريل، 1989. نسخة مطبوعة.

[19] “ترجمة نص أسطوانة كورش”. فى العمل المذكور سابقًا. الفقرات 20-22.

[20] العهد القديم. أشعيا. 44: 28-45: 1. http://bible.oremus.org/?passage=Isaiah

[21] «چرا کوروش کبير ذوالقرنين است؟»، عصر ایران، 25 فروردین 1390. http://bit.ly/1wBpTmF

[22] القرآن. ترجمة عبدالله يوسف على. 18: 84-85.

[23] هيرودوتس. تاريخ هيرودوتس. ترجمة ج. ك. ماكولى. ماك لين، فانكوفر: IndyPublish.com، 2002. 3. 89. نسخة مطبوعة.

[24] زينوفون. سايروبايديا: أو مؤسسة كورش والإغريق، أو التاريخ الإغريقى. تولى الترجمة ج. س. واتسون وهنرى دايل. لندن: ه. ج. بون، 1855. الكتاب السابع. 2. 7. إنترنت.

[25] بوردمان، جون. التاريخ القديم بحسب كامبردج، العدد 10: فارس اليونان وغرب المتوسط. 525 إلى 479 ق. م. كامبردج: كامبردج يو بى، 1988. 42. نسخة مطبوعة.

[26] تورج دریایی، پیشین، ص 22.

[27] “ترجمة نص أسطوانة كورش”. في العمل المذكور سابقًا. الفقرات 7-9.

[28] في نفس المرجع. الفقرة 12.

[29] بازاشوف، ناوومي إى، وروبرت ج. ليتمان. تاريخ مقتضب عن اليهود. لانهام، م. د: رومن أند ليتلفيلد، 2005. 43. نسخة مطبوعة.

[30] العهد القديم. ملكان. 25: 9-12. http://bible.oremus.org/?passage=2Kings

[31] أسر اليهود: وعودتهم من بابل. لندن: ريليجيس تراكت سوسايتى، 1840. 74. نسخة مطبوعة.

[32] “النفي البابلى”. أنسيكلوبيديا بريتانيكا. 25 نوفمبر 2014.

 http://www.britannica.com/EBchecked/topic/47693/Babylonian-Exile

[33] “تاريخ إيران: كورش الكبير”، في العمل المذكور سابقًا.

[34] فروخ، كافيه. ظلال في الصحراء: فارس القديمة في وقت الحرب. أكسفورد، المملكة المتحدة: أوسبريى، 2007. 45. نسخة مطبوعة.

[35] العهد القديم. عزرا. 2: 64-65. http://bible.oremus.org/?passage=Ezra

[36] فروخ، في العمل المذكور سابقًا. 45.

[37] عزرا، في العمل المذكور سابقًا. 1: 7.

[38] في نفس المرجع. 1: 2-4.

[39] فروخ. في العمل المذكور سابقًا. 45.

[40] أهارونى، يوهانان. أرض الإنجيل: جغرافيا تاريخية. فيلادلفيا: وستمنستر، 1979. 411. نسخة مطبوعة.

[41] دریایی، پیشین، ص 22.

[42] «اهمیت و نقش آزادی­های مذهبی در موفقیت سیاسی کوروش کبیر»، بی بی سی فارسی، 27 اوت 2013. http://www.bbc.co.uk/persian/iran/2013/08/130827_l93_cyrus_book

[43] “ترجمة نص أسطوانة كورش”. فى العمل المذكور سابقًا. الفقرات 31- 34.

[44] فروخ. فى العمل المذكور سابقًا. 44.

[45] “أسطوانة كورش”. الموقع الإلكتروني للمتحف البريطانى. http://www.britishmuseum.org/explore/highlights/highlight_objects/me/c/cyrus_cylinder.aspx

[46] “المتحف البريطانى يعير أسطوانة كورش لمتحف إيران الوطنى”. الموقع الإلكترونى للمتحف البريطانى. 10 سبتمبر عامى 2010. 2015. http://www.britishmuseum.org/about_us/news_and_press/statements/cyrus_cylinder.aspx

[47] الإعلان العالمى الأول عن الكرامة المتأصلة والمساواة بين الجميع، الأمم المتحدة، 10 ديسمبر 2008. http://www.un.org/en/events/humanrightsday/2008/history.shtml

[48] جاسيمى، شابور. “تاريخ إيران: أسطوانة كورش الكبير”. إيران شامبر سوسايتى. http://www.iranchamber.com/history/cyrus/cyrus_charter.php

[49] فينكل، إيرفينج. أسطوانة كورش: إعلان ملك فارس من بابل القديمة. لندن: آى. ب. تورس، 2013. 82. نسخة مطبوعة؛ “أسطوانة كورش”. مجلة فيزانا. 4 يوليو 2013. 62. إنترنت. http://cyruscylinder2013.com/wp-content/uploads/2013/08/FEZANA_Journal_2013_Summer.pdf

[50] شياكو، دوانا. “أسطوانة كورش،  مرسوم قديم حول الحرية الدينية، تبدأ جولتها الأمريكية”. رويترز. 7 مارس 2013. http://www.reuters.com/article/2013/03/07/us-usa-cyrus-idUSBRE9260Y820130307

[51] بويس، مارى. الزرادشتيون، معتقداتهم وشعائرهم الدينية. لندن: روتلدج أند كيجن بول، 1979. 56. نسخة مطبوعة.

[52] عزرا. في العمل المذكور سابقًا. 6: 1- 15.

[53] ليا تيرهون. “حاكم فارسى قديم أثر في توماس جيفرسون، الديمقراطية الأمريكية”. آى آى بى ديجيتال. 13 مارس 2013. http://iipdigital.usembassy.gov/st/english/article/2013/03/20130312143982.html#axzz3Wpu2oEDY

[54] فى نفس المرجع.

[55] “كورش الكبير”. نيو وورلد إنسايكلوبيديا. http://www.newworldencyclopedia.org/entry/Cyrus_the_Great

[56] عبادى. شيرين. “محاضرة نوبل”. Nobelpriz.org. 10 ديسمبر 2003. http://www.nobelprize.org/nobel_prizes/peace/laureates/2003/ebadi-lecture-e.html